إعادة التفكير في الإصلاح

التوصل إلى قناعة بجدوى جهود ومبادرات الإصلاح بالنسبة للجميع أمر مهم وأساسي لكي يحقق هذا الإصلاح فوائده المرجوة، ويؤدي إلى نتائج اقتصادية إيجابية على الفرد والمجتمع ككل. المحافظة على مكتسبات الدولة من عوائد مادية تحققت على مدى طويل من الزمن، ومستوى معيشة جيد، يتطلب من الجميع المشاركة في ذلك من خلال تحمل مسؤولياتهم. والإصلاح له أطراف رئيسة ثلاثة، تتجاذب خيوط هذا الإصلاح، وهي: القطاع الخاص، المواطن، والحكومة. والتوازن في تحمل المسؤوليات أمر هام لكي تسير عملية الإصلاح وفق نمط متوازن تتحقق فيه الفائدة للجميع، دون استئثار لفئة على أخرى بعوائد أو بتكاليف عملية الإصلاح.
من الصعب على المواطن تقبل مبادرات الإصلاح عندما يكون القطاع الحكومي الذي يقدم هذه المبادرات يعاني نفسه من مشاكل تعوق أداءه لعمله بالكفاءة المطلوبة. سيكون من الصعب مثلا على المواطن تقبل فكرة إصلاح الإعانات بمختلف أشكالها، إذا كانت الحكومة لديها مشاريع خدمية متعثرة في قطاعات صحية وخدمية أخرى تتعلق بهذا المواطن. وسيكون ذلك أيضا أصعب، عندما يرى المواطن البذخ في الإنفاق الحكومي في بعض الجوانب، وفي الوقت نفسه يجد المواطن الحكومة نفسها تقدم مبادرات يرى أنها تحمله مسؤوليات أكبر، دون عمل على إصلاح أداء الحكومة. سيجد المواطن صعوبة في ذلك، عندما يرى تدهور مستوى الخدمات الأساسية التي تقدم له في مجالي الصحة والتعليم في الوقت الذي تذهب فيه نسبة كبيرة من الإنفاق الحكومي إلى هذين القطاعين.
المواطن أيضا سيجد من الصعوبة تحمل مسؤولياته في مبادرات الإصلاح إذا كان يرى أن القطاع الخاص نفسه يرفض أو يمانع من تحمل مسؤولياته، وأقلها عملية توطين الوظائف. مبادرات كثيرة تمت في هذا المجال، ولا يزال القطاع الخاص يراوح مكانه في هذا الموضوع، ولم يستطع بعد أن يستوعب المواطن الراغب بالعمل، في حين يوفر أفضل الفرص الوظيفية للأجنبي، حتى أصبح القطاع الخاص الذي يفترض أن يكون أداة لخلق الوظائف وتحريك عجلة التنمية، قطاعا يهتم فقط بتركيز الثروة وتصديرها للخارج. أضف إلى ذلك، عدم قدرة القطاع الخاص نفسه أن يشكل لنفسه مسارا للنمو بعيدا عن مسار الإنفاق الحكومي، وفشله في تشكيل مبادرات تساهم في تنويع القاعدة الإنتاجية للاقتصاد، وارتكازه على أنشطة تسعى إلى الاستفادة من الريع دون التركيز على القيمة.
لكن هل معنى ذلك ألا تسير الدولة في دفع عجلة الإصلاح إلى الأمام، بالطبع لا. بل إن استمرار هذه العجلة هو الحل الوحيد للخروج من التأزم الحاصل في كثير من المجالات. لكن يجب أن يكون هناك خط متوازن لعملية الإصلاح، يبدأ بالحكومة ثم القطاع الخاص ثم المواطن. سيكون الإصلاح الذي يتحمل مسؤوليته المواطن أكثر قبولا عندما يكون جزءا من عملية شاملة لزيادة كفاءة إنفاق وأداء الجهاز الحكومي، وفي إطار يضمن تحمل القطاع الخاص لمسؤولياته تجاه هذه العملية، وفي ظل فهم مشترك بين أطراف العملية الإصلاحية بالفوائد التي سيحققها هذا الإصلاح على المدى المتوسط والبعيد. المهم ألا يفقد الإيمان بمسيرة الإصلاح وأهميتها لتأسيس اقتصاد المرحلة المقبلة، الاقتصاد الأكثر تنوعا، والمعتمد بشكل أكبر على مبادرات أبنائه. الاقتصاد الذي يسعى إلى تعزيز الإنتاجية والتنمية والنمو الاقتصادي، الذي يسعى إلى حياة كريمة للمواطن، والمواطن المسؤول، والمواطن رجل الأعمال، وللجميع دون استثناء.
من المهم أيضا أن يكون هناك نظرة بعيدة المدى لهذا الإصلاح، وألا تقتصر على معالجات تتم على المدى القصير فقط، وقد سبق أن أشرت في مقالات متعددة أن إصلاح الخدمات التي تقدم في مجالات متعددة، ومن ضمنها قطاع الصحة على سبيل المثال، لا يمكن أن تتم على المدى القصير أو المتوسط، وإنما يجب أن تتم في إطار برنامج على المدى الطويل يهدف إلى تحقيق الاستقرار والاستدامة في الخدمات المقدمة من هذا القطاع. التركيز على إنجاز كل شيء على المدى القصير والمتوسط يؤدي إلى الوقوع في أخطاء قاتلة، وهدر للموارد، وتحميل الاقتصاد أكثر مما يحتمل. من الممكن أن يكون لدى الحكومة القدرة على ضخ الأموال اللازمة لإنجاز خطة كل وزير، لكن لا يمكنها في وقت قصير زيادة طاقة الاقتصاد لاستيعاب المشاريع التي تتضمنها كل خطة. أضف إلى ذلك، ما يؤدي إليه ذلك من تشوهات كبيرة في الاقتصاد نتيجة محاولة استيعاب هذه المشاريع، خصوصا في قطاع العمل، التي ستعني المشكلة في هذا الجانب بدلا من حلها.
وأخيرا، فالإصلاح التنموي ضرورة لا بد منها للمضي قدما بعملية التنمية الاقتصادية، وهي عملية شاملة تتطلب توازنا في جميع أطرافها: الحكومة، المواطن، والقطاع الخاص. الإصلاح أيضا عملية مستمرة ولا تتوقف عند إنجاز معين أو بحلول زمن معين، والصحافة وأصحاب الفكر الإداري والاقتصادي والمهتمون بالشأن العام هم العين التي تراقب وتقيم هذا الإصلاح، ما يتطلب دورا فاعلا لهم في ذلك، يتعدى التركيز على الإثارة، واستجلاب عواطف القراء، والهجوم على الأشخاص، إلى التركيز على تصحيح مسيرة الإصلاح وتوجيهها إلى المسار الصحيح.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي