مكاتب المحاسبة والمنافسة غير العادلة

تحتل مهنة تدقيق الحسابات أهمية كبيرة في المجتمعات الاقتصادية المتقدمة لدورها المهم في تعزيز الثقة بالقوائم المالية، وبالتالي القرارات الاقتصادية بتنوعها، ولذلك بات السؤال عن طبيعة المنافسة في سوق التدقيق أمرا مهما، خاصة في ظل الظاهرة التي سادت في معظم دول العالم، التي تمثلت في سيطرة عدد محدود من شركات ومكاتب التدقيق الكبرى على السوق، التي تسمى Big 4، حيث تجاوزت الحصص السوقية لها في معظم دول العالم نسبة 90 في المائة، ونظرا لهذا فقد تم اعتبار أسواق التدقيق في تلك الدول - بحسب نظرية التنظيم الصناعي - أنها تعاني احتكار قلة شديد، وأشار التقرير الصادر عن لجنة الشؤون الاقتصادية المفوّضة من قبل مجلس اللوردات البريطاني House of Lords عام 2011، إلى أن إيرادات أصغر شركة من شركات Big 4 تبلغ ثلاثة أضعاف إيرادات أكبر شركة تدقيق تلي شركات Big 4. وأثارت مسألة احتكار سوق المراجعة الخارجية اهتمام الأبحاث المحاسبية منذ بداية عام 1960، ومعظم تلك الدراسات تؤكد دور عمليات الاندماج بين المكاتب في زيادة درجة الاحتكار السوقي بيد الـ Big 4.
ورغم هذا الاحتكار فقد كانت هناك أسباب مشروعة شجعت عليه، بعضها يرتبط بصورة مباشرة بالحفاظ على استقلالية مراجع الحسابات وجودة عملية المراجعة نفسها، فالمكاتب صغيرة الحجم غير قادرة على تدقيق حسابات الشركات العملاقة، حتى إن استطاعت هذه المكاتب القيام بعملية المراجعة نظريا فستشكل إيراداتها من أتعاب الشركة العملاقة جزءا مهما، بل رئيسا من إيراداتها، وبالتالي فسيعمل المكتب الصغير على إرضاء إدارة الشركة العملاقة، وستثار هنا أسئلة محرجة بخصوص استقلالية أداء مكتب التدقيق بالنسبة لهذا العميل المهم، لذلك فإن زيادة حجم مكاتب التدقيق يصبح أمرا طبيعيا، بل ضروريا، كلما زاد حجم العملاء.
ورغم التنظير المقبول لسيطرة مكاتب التدقيق الكبرى، فقد ساد قلق واسع بأن ينتج عن ذلك منافسة غير سوية في السوق، وبالتالي اتجاه المكاتب الصغيرة لتخفيض الأتعاب أملا في الحصول على عملاء، ما يضر بجودة المراجعة ونوعية العملية المهنية برمتها ومن ثم صدق القوائم المالية، وقد ينتج عن ذلك ظاهرة أخرى أشد خطرا تسمى ظاهرة تسويق الرأي المحاسبي Opinion Shopping، حيث تعمد الشركات التجارية العملاقة إلى البحث عن مكاتب تدقيق صغيرة أو متوسطة توافق على إصدار تقرير على قوائم مالية تحتوي على مخالفات محاسبية، وقد تستخدم من أجل ذلك ورقة الأتعاب كإغراء للمكاتب الصغيرة. كما أن هناك ظاهرة أخرى لا تقل قلقا قد تنتشر مع سيطرة المكاتب الأربعة الكبار على سوق التدقيق، وهي ما تسمى بظاهرة ''أكبر من أن تفشل'' Too Big To Fail، هو مذهب بدأ ينتشر بعد الأزمة المالية العالمية، بحيث لا يمكن أن تسمح الحكومات للشركات الكبيرة بأن تفشل في أعمالها، بسبب أنها كبيرة لما في ذلك من آثار ونتائج سلبية على قطاع اقتصادي واحد أو على الاقتصاد ككل، وهو ما بدا يظهر عالميا من عدم السماح لشركات المراجعة الكبرى بأن تنهار على غرار مكتب آرثر أندرسن العالمي. هذه الظاهرة – إن انتشرت بين دول العالم - قد تكون لها آثار سلبية في مهنة تدقيق الحسابات في المستقبل.
وفي المملكة العربية السعودية ودول الخليج العربية أظهرت بعض الدراسات وجود سيطرة جزئية لهذه المكاتب الكبرى مع احتكار كامل لها في بعض القطاعات، ولذلك أسباب عدة، ورغم الجهود الحكومية للتخفيف من آثار هذه السيطرة، التي منها فرض تغيير المراجعة كل ثلاث سنوات، أو تعيين أكثر من مراجع واحد للشركة نفسها، إلا أن السوق لم تزل في حاجة إلى مزيد من الجهود لدعم اندماج الشركات والمكاتب الوطنية، لما فيه مصلحة هذه المكاتب أولا، ومصلحة هذا القطاع الاقتصادي المهم من جميع نواحيه.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي