الآسيويون يغزون أمريكا بسلاح العلم
منذ عام 2009 تحديدا طرأت زيادات واضحة في أعداد الوافدين الآسيويين إلى الولايات المتحدة إلى الدرجة التي أصبحوا معها أكبر مجموعة من المهاجرين الجدد إلى الأراضي الأمريكية. وهذا يعني أنهم ينافسون أعداد المهاجرين من دول أمريكا اللاتينية أو من يطلق الأمريكيون عليهم اسم ''هسبانك''. وتقول دراسة ديموغرافية نشرت أخيرا من إعداد مركز ''بيو'' للأبحاث، أنه في الوقت الذي يغزو فيه الآسيويون أمريكا مسلحين بالعلم والثقافة، تتراجع أعداد الوافدين من المكسيك، جارة أمريكا الكبرى إلى الجنوب، حتى وصلت حاليا إلى الصفر، وذلك، بسبب تباطؤ سوق العمل، وبالتالي قرار الكثيرين بالعودة طواعية إلى بلدهم، ثم بسبب التدابير الصارمة التي اتخذتها السلطات الأمريكية لمكافحة الهجرة غير القانونية.
وإذا كان تراجع أعداد المهاجرين من المكسيك ودول أمريكا اللاتينية الأخرى قد تسبب في نقص حاد في العمالة المطلوبة لإشغال المهن الحقيرة التي يأنف منها الأمريكيون، أو العمالة المطلوبة لجني المحاصيل الزراعية وتخزينها وتغليفها أو نقلها (بسبب هذا النقص تراوحت خسائر القطاع الزراعي الأمريكي هذا العام ما بين خمسة إلى تسعة مليارات دولار)، فإن تزايد أعداد المهاجرين الآسيويين لم يحل المشكلة، لأن جل هؤلاء أو ما نسبته 61 في المائة هم من الشباب، فوق سن 25، ومن الحاصلين على درجات جامعية في تخصصات عالية، وبالتالي ليسوا في وارد القبول بالوظائف والمهن الدنيا ذات المردود المادي القليل، حتى وإنْ كانوا لا يقيمون إقامة شرعية داخل الأراضي الأمريكية (تنطبق صفة المقيمين اللاشرعيين على نحو 15 في المائة من المهاجرين الآسيويين).
ولأن فرص حصول المهاجرين الآسيويين (خصوصا من الهند والصين وكوريا الجنوبية) على تأشيرة عمل وإقامة في الولايات المتحدة أكثر بثلاث مرات من الفرص المتاحة أمام المهاجرين الآخرين، بسبب المواهب والكفاءات العلمية للفئة الأولى، معطوفة على سياسات الهجرة الجديدة التي بدأت واشنطون في تطبيقها اعتبارا من التسعينيات التي أعطت الأولوية للأثرياء ورجال الأعمال وعلماء تقنية المعلومات والحاصلين على درجات جامعية في تخصصات معينة، فإن هناك مخاوف من تزايد أعداد هؤلاء المهاجرين الآسيويين على المدى القصير بشكل يحمل معه تغيرات اقتصادية واجتماعية، بل واحتمال حدوث أزمات داخلية في حال شعور المواطن الأمريكي بأن المهاجر الآسيوي يسلبه فرص العمل أو يستفيد على حسابه من الخدمات الاجتماعية. حيث تشير إحدى الإحصائيات إلى أن 430 ألف مهاجر آسيوي (أو ما نسبته 36 في المائة من إجمالي عدد المهاجرين الجدد) دخلوا الولايات المتحدة في عام 2010 مقابل 370 ألف مهاجر لاتيني أو ما نسبته 31 في المائة.
وفي السياق نفسه لا بد من الإشارة إلى تنامي أعداد الطلبة القادمين من آسيا للدراسة في الولايات المتحدة. ومعظم هؤلاء يفضل البقاء في الأخيرة للعمل والإقامة بعد تخرجه. إذ تشير إحدى الدراسات إلى أن من بين كل عشرة طلاب جامعيين آسيويين في الولايات المتحدة، هناك ستة طلاب يفضلون عدم العودة إلى بلدانهم، والإقامة بدلا من ذلك في أمريكا. وتشير الدراسة إلى أن الطلبة الآسيويين (سواء أولئك الذين ولدوا في الولايات المتحدة أو الذين هاجروا إليها مع أسرهم) حصدوا نحو 45 في المائة من إجمالي شهادات الدكتوراه الممنوحة في الهندسة من الجامعات الأمريكية في عام 2010، و38 من إجمالي شهادات الدكتوراه في الرياضيات أو علوم الحاسوب، و30 في المائة من إجمالي شهادات الدكتوراه في الفيزياء الممنوحة في العام ذاته.
والجدير بالذكر في هذا المقام أن الأمريكيين من أصول آسيوية يشكلون نسبة 6 في المائة من إجمالي الشعب الأمريكي (أو 14.5 مليون نسمة)، ومعظم هؤلاء ولد خارج الولايات المتحدة في دول مثل اليابان والصين وتايوان وفيتنام والفلبين وكوريا الجنوبية، لكنه حصل على الجنسية الأمريكية لاحقا، وتطبع بالطباع والثقافة الأمريكية، بسبب الإقامة والدراسة والاندماج في المجتمع الأمريكي. ومن بين الأمريكيين الآسيويين أسماء لامعة حققت للولايات المتحدة الصدارة والريادة في عدد من الحقول مثل الطب وعلوم الفضاء وتقنية المعلومات والرياضة والميديا والأدب والموسيقى والتمثيل والإخراج السينمائيين وعروض الأزياء وتصميمها، ناهيك عن أولئك الذين برزوا بسبب اكتشافاتهم في الفيزياء والكيمياء والرياضيات والطب وعلمي الجينات والجزيئات المتناهية الدقة (النانوتكنولوجي)، فحصدوا للولايات المتحدة جوائز نوبل العالمية في الأعوام 1957 و1968 و1976 و1983 و1987 و1997 و1998 و2008 و2009.
وبحسب ما هو ثابت في المصادر التاريخية فإن أول من استوطن الولايات المتحدة من الآسيويين هم مجموعة من الفلبينيين الذين أسسوا في عام 1763 مستوطنة لهم في ولاية لويزيانا تحت اسم ''سانت مالو''، وذلك بعد فرارهم من سفن إسبانية، بسبب سوء معاملة ربابنتها لهم، ومن ثم اقترانهم بفتيات أمريكيات.
وحينما ضمت الولايات المتحدة جزر هاواي إلى أراضيها في عام 1898 صار كل متواجد في الأخيرة أمريكيا، وذلك بموجب التعديل الدستوري الرابع عشر الذي نص على منح الجنسية الأمريكية لكل شخص مولود على التراب الأمريكي بغض النظر عن عرقه أو لونه أو أصله. وقد شمل هذا كل الصينيين الذين حطوا رحالهم في هاواي في عام 1778، وكل من تبعهم لاحقا من اليابانيين والكوريين والفلبينيين الذين قدموا للعمل في مزارع السكر، فتزوجوا وتكاثروا.
أما الموجة الأولى من المهاجرين الآسيويين إلى الأراضي الأمريكية فقد حدثت في القرن الـ 19 حينما قدم إلى الأخيرة مهاجرون صينيون ويابانيون كثر تحت ضغط ظروف بلدانهم الاقتصادية البائسة وقتذاك، فعملوا في قطاع الإنشاءات وبناء السكك الحديدية، متخذين من الساحل الغربي الأمريكي مركزا لتجمعهم، في مقابل تمركز المهاجرين القادمين من أوروبا في مدن الساحل الشرقي. ورغم الفارق الكبير في أعداد أولئك وهؤلاء، فإن المخاوف وقتذاك من تزايد أعداد الآسيويين مع مرور الوقت ومنافستهم للعرق الأبيض جعلت السلطات تصدر قوانين للحد من الهجرة الآسيوية. وبطبيعة الحال زادت السلطات الأمريكية من تشددها حيال المهاجرين الآسيويين القادمين من اليابان خلال الحرب العالمية الثانية، وحيال المهاجرين القادمين من الصين بعد نجاح الشيوعيين الحمر في دحر خصومهم الوطنيين الكومينتانج واستيلائهم على مقاليد السلطة في بكين. لكن ذلك التشدد انتهى بصدور قانون ''هارت سيلر'' لعام 1965 الذي أوصى بإزالة الكثير من العوائق أمام عملية لمّ شمل العائلات الآسيوية المتناثرة ما بين الولايات المتحدة والوطن الأم، وخصوصا إذا كان طالب الهجرة الآسيوي من ذوي الكفاءات العلمية، الأمر الذي ساهم في ارتفاع أعداد من يعرفون بـ ''أمريكان أيشيان''، وهو مصطلح دخل الأدبيات الأمريكية منذ مطلع السبعينيات فقط على يد بعض الأكاديميين من أمثال المؤرخ الأمريكي من أصل ياباني ''يوجي آتشيوكا''، كبديل لمصطلح ''أورينتال''
ومن الملاحظات الجديرة بالاهتمام هو أن معظم المهاجرين الآسيويين الجدد إلى الأراضي الأمريكية خلال العقود الأخيرة كان من دول شبه القارة الهندية، وخصوصا من الهند التي يأتي منها أكبر نسبة من المهاجرين غير الشرعيين (بلغ عددهم 270 ألف مهاجر غير قانوني في عام 2009 ).