تخبط سياسات المعرفة المستدامة رغم التطور التنموي
يشكل انعدام التوازن بين المواطنين والوافدين في سوق العمل والخلل السكاني قلقاً متزايداً في دول مجلس التعاون الخليجي. ويعود سبب تلك المخاوف للآثار السلبية المحتملة للأعداد الكبيرة من الوافدين لاعتبارات ثقافية واجتماعية وسياسية وخاصةً مشكلات البطالة والهوية الوطنية للمجتمع الخليجي العربي. ورغم أن هذا القلق له مبرراته، وقد سبق الإسهاب في مناقشتها، دعونا نلقي الضوء على بعض التناقضات والإشكاليات التي تصطدم بها تلك الآراء والسياسات المطروحة أو المعتمدة لمعالجة هذه المشكلات.
أحد الأسباب الرئيسة لهذه المشكلات يكمن في أن الرغبة في معالجة مشكلة البطالة وتوطين العمالة وحماية الهوية الوطنية تتعارض أحيانا مع طموحنا لتحقيق النمو الاقتصادي المرتفع والسريع منخفض التكلفة. يقود هذا الطرح إلى سؤال منطقي: إذا كانت دول الخليج تسعى للنمو السريع ودعم خططها الاقتصادية الطموحة والضخمة، والانضمام إلى قوائم التصنيفات العالمية وتصبح من أبرز المنافسين في فترة قصيرة جدا من الوقت، فهل من الممكن أن تفعل ذلك بدون الاعتماد على موارد العمالة والخبرة منخفضة التكلفة التي يتحلى بها الوافدون؟ هل يمكن ذلك في الوقت الحالي على الأقل، عندما لا نقوم بإعداد ما يكفي من الموارد الكافية من ناحية العدد والجودة كما يرى كثير من المحللين؟ وبكوننا لم ننجح بعد بوضع استراتيجيات فاعلة لنقل المعرفة وتطوير بيئة مؤسسية وحوافز وفرص يمكن الاعتماد عليها لتمكين وتحفيز الكفاءات الوطنية واقناع القطاع الخاص بالفائدة الطويلة المدى لتوطين الوظائف، فهل تبدو التصريحات والخطوات السريعة نحو التوطين والإحلال جدية أو واقعية؟ هل تطلعاتنا وطموحاتنا حول النمو السريع والانضمام إلى قوائم وتصنيفات التنمية والتنافسية العالمية تفوق قدرتنا وآلياتنا الموجودة على أرض الواقع. ويكشف ذلك عن إشكالية أساسية في التفكير والتخطيط: كيف نحقق التوازن ونواجه التضارب بين أهدافنا الاجتماعية والسياسية من جانب والمصالح الاقتصادية على الجانب الآخر.
وقد يسأل أحدنا لماذا يصعب علينا التخلي عن اعتمادنا على الموارد والخبرات الوافدة من الأفراد والشركات. الإجابة ببساطة هي أننا لم ننجح في نقل ودمج المعرفة والتقنيات والخبرات التي جلبوها معهم إلى قوة العمل الوطنية من الأفراد والمؤسسات بكفاءة. هل تعلمنا ما يكفي من المهندسين والأطباء وشركاتهم التي قامت ببناء منشآتنا من المصانع والأبراج والفنادق والمستشفيات والمطارات؟ كم تعلمنا فيما يتعلق بالقدرة على إعادة تنفيذ وتجديد أو حتى إدارة وصيانة هذه المنشآت؟ هل تضمنت شروط عقود البنية الأساسية بنودا تقضي بتعيين المواطنين (حتى ولو مجاناً بغرض التدريب والخبرة) للتعلم ونقل المعرفة والخبرة، من تخطيط المشاريع إلى التنفيذ والعمليات؟ هل تغلبنا على ''ثقافة تسلم المشاريع على الجاهز''؟
يعد الخليج من أكثر المناطق حظاً في العالم، إذ حظى بأكثر من أربعة عقود متتالية من النمو الذي جذب الكثير من المهارات والمعرفة الوافدة. ولكننا الأقل فعالية في العالم فيما يتعلق بنقل المعرفة وتدريب مواطنينا ومؤسساتنا عليها. فالشركات تحضر إلينا بعمالتها الماهرة وتصمم ما نحتاج إليه ثم تذهب - بدون إيجاد الظروف المواتية والحوافز لنقل المعرفة وبدون الاستفادة من إمكاناتهم. ربما يجب أن نتعلم منهم أو أن نسمح لبعضهم بالبقاء - مع منحهم الحقوق الثابتة ليكونوا جزءاً من الأساس الاقتصادي لمجتمعاتنا ولو على المدى القصير والمتوسط. ربما نحتاج إلى أن نبدأ ببناء مجتمع يعتمد على المعرفة المستدامة بكل ما لدينا من المواطنين وفئة من الوافدين ذوي العلم والخبرة والأمانة.
ورغم التطورالتنموي والاستثمار المستمر في التعليم والتدريب، لا نزال نتخبط في نظرتنا وسياستنا تجاه المعرفة المستدامة وسبل تعزيز مجتمع واقتصاد المعرفة في إطار التنوع الموجود في الخليج. ومع وجود القوة العاملة الوافدة الضخمة والمتنوعة، قد تحتاج دول الخليج إلى أدوات أخرى لحفظ المعرفة الضمنية أو غير الموثقة التي يحظون بها. وقد يكون ذلك صعباً إلا إذا ناقشنا الأسباب التي تعوق تبادل ونقل المعرفة من الموارد البشرية والشركات الوافدة. وتتضمن تلك الأسباب الخوف من فقد الوظائف أو استمرارية العقود، عدم الثقة والتفهم، ومقاومة التغيير في مؤسساتنا وثقافتها. والأهم من ذلك، يجب أن يخصص الوقت الكافي والدعم لكي تكون عملية نقل وتمكين المعرفة، وليس تكوين المعرفة فقط، أولوية في برامج التطوير والتنمية.
وتعد إمكانية نقل وتوطين أصحاب المعرفة الوافدة عن طريق خلق حوافز لهم مثل منحهم حق الإقامة والتملك، كما هو الحال في عدة بلدان حول العالم، مسألة شائكة في دول الخليج. ولكن توجد ازدواجية وتناقض في بعض السياسات مثل قوانين الاستثمار الأجنبي الجديدة التي تمنح المستثمرين الأجانب حق تملك العقارات والتمتع بحق الإقامة وغيرها من المميزات والحوافز بغض النظر عن الخصائص الأخرى التى يتحلون بها، وليس فقط ميزة الثراء المادي. يتساءل بعض الخبراء لماذا لا يتم منح تلك المميزات إلى أصحاب المعرفة والمهارات بما في ذلك العلماء والمهندسون والأكاديميون والأطباء وخبراء التكنولوجيا الذين شاركوا في بناء وتسيير المقومات الوطنية منذ عقود؟ ربما يكون ذلك حلاً متوازنا ولو مؤقتا لأزمة الرغبة في النمو السريع رغم قلة المهارات الوطنية، إذا كان صحيحا أن هنالك قلة. هناك أطروحة أخرى تقول إنه يجب أن يعاد تعريف مفهوم الهوية الوطنية في الخليج لكي تتضمن التنوع لأنه هو انعكاس للأمر الواقع.
تستوجب التنمية المتوازنة والمستدامة قدرا من التفكير والتخطيط الاستراتيجي لمعالجة تضارب السياسات والأهداف التنموية. لقد ذكرت في مقال سابق هنا أن جزءا من إشكالية الخليج في صياغة وتنفيذ الخطط التنموية هو عدم المواءمة والتكامل بين الأهداف والاستراتيجية ومعالجة التضاد في مضامينها وافتراضياتها الأساسية في مرحلة صنعها وقبل تبنيها وتنفيذها. على سبيل المثال الفجوة بين تنمية موارد رأس المال البشري والمعرفي من جهة وبين عملية التوظيف والتمكين من جهة أخرى. إن المعرفة التي لا يُستفاد منها تعتبر موارد مفقودة. وتمثل المبادرات الأخيرة لتخطيط وتنفيذ إدارة المعرفة ولو كانت قليلة خطوات جيدة لمعالجة هذه الثغرة التنموية. ولذلك قد يعتمد النجاح في مسألة توطين العمل والعمالة على نقل وتوطين المعرفة ودمجها في مؤسساتنا الوطنية (العامة والخاصة) وبخلق تركيبة الحوافز والفرص للسواعد الوطنية من خلال التغيير والإصلاح المؤسسي قبل الاندفاع السريع في سياسة توطين القوة العاملة التي تصاغ بمنأى عمن سينفذها أو يتأثر بها سواء القطاع الخاص أو طالب العمل المواطن نفسه.