تضخم الطاقات المعطلة وغير المستغلة في دول الخليج
شهدت الفترة الأخيرة اهتمامًا ونقاشًا واسعًا في دول الخليج حول دور تنمية موارد رأس المال البشري (المعرفة ـــ المهارات ـــ القدرات) في أداء المؤسسات العامة والخاصة وكمطلب لخلق الوظائف وتوطين سوق العمل.
يبدو هذا واضحًا في عدد المؤتمرات والندوات التي عقدت في السنوات الثلاث الأخيرة وما تبعها من سياسات وبرامج تطويرية. تسيطر على تلك المناقشات والجدل ثلاثة آراء معادة ومكررة: الادعاء بوجود عجز في الموارد البشرية الوطنية والمؤهلة، الحاجة للمزيد من الاستثمار في بناء المهارات والقدرات للقوة العاملة من خلال برامج تدريب وتطوير المهارات الإدارية والقيادية، وأخيرًا سياسات التوطين والإحلال الوظيفي لتقليل الاعتماد على التقنيات والمهارات الأجنبية ومعالجة أزمة البطالة.
وفيما يتعلق بضعف أداء مؤسساتنا والاعتماد المستمر على العمالة والخبرة الوافدة، غالبًا ما يُلقى باللوم على قلة عدد المواطنين المؤهلين الذين يتميزون بالمهارة والحافز للاضطلاع بالوظائف في القطاعين العام والخاص وأدائها بشكل جيد. لقد ركزت معظم الحلول السابقة لهذه المسألة على زيادة عدد برامج تطوير الإدارة ومهارات المواطنين ومنح الدراسة في الداخل والخارج. فمثلاً تم ابتعاث ما يزيد على ربع مليون طالب من دول الخليج لأفضل الجامعات في العالم فقط في السنوات الخمس الماضية، معظمهم من السعودية، وتمت زيادة عدد الجامعات في الخليج من قرابة العشرين جامعة في بداية التسعينيات إلى أكثر من 200 جامعة وكلية الآن. يعتقد مخططو التنمية الاقتصادية والمنفذون لبرامج التنمية والتطوير، أن هذه السياسات ستؤدي إلى تحسين الأداء بشكل أوتوماتيكي نتيجةً للاستثمار في التعليم والتدريب والتحديث التقني. ويبقى التغيير الآخر الذي يعد أكثر صعوبة هو توطين القوة العاملة.
وعلى الرغم من الاهتمام المستمر بتطوير موارد المعرفة البشرية طوال سنوات كثيرة، يعد مردود الاستثمار في التعليم والتدريب ضعيفًا في جميع أنحاء المنطقة على مدى العقود الثلاثة الماضية. وما زالت الدراسات والتقارير عن أداء التنمية في المجتمعات الخليجية، فيما عدا نسب النمو العائد لارتفاع عائدات النفط، تظهر أن نتائج الاستثمار في التعليم والتدريب لا تزال محدودة في تحسين أداء المؤسسات الحكومية والاقتصاد بشكل عام. وهو أمر محير يبدو كاللغز: لماذا لا يؤتي كل هذا الاستثمار في تنمية رأس المال البشري ثماره؟ ولماذا لا يحقق النتائج المرجوة؟ يلقي الكثير من المحللين اللوم على نوعية التعليم وبرامج التدريب أو القيم والسلوكيات المحلية المتعلقة بالعمل. مع أن هذه أسباب وجيهة لحل اللغز وزيادة الحرص المستمر على التعامل معها، ولكن يغفل التفكير والتحليل السائد عوامل أخرى مهمة في كل من تشخيص وحل المشكلة.
أحد هذه العوامل هو كيفية إدارة وتمكين المعرفة والمواهب في مؤسساتنا ومجتمعنا من خلال التغيير والتطوير المؤسسي. وتظهر دراسة حديثة حول أداء رأس المال البشري والمؤسسات في بلدان مجلس التعاون الخليجي، أن أحد الأسباب الرئيسة وراء النتائج غير المرضية للأداء ليس بالضرورة نقص المهارات والقدرات الوطنية خصوصًا في السنوات الأخيرة، ولكن في تضخم الطاقات المعطلة وغير المستغلة، وانعدام المناخ الملائم والحوافز التي تضع تلك الطاقات في مكانها الصحيح مما يتيح تفعيلها والاستفادة منها. وقد اعتمدت هذه الدراسة على بحث ميداني أجري على أكثر من 700 شخص في السعودية وعُمان والإمارات. وأوضحت الدراسة أنه على الرغم من النمو المستمر في المهارات والقدرات الوطنية، فكثيرًا ما يتم وضعها في المكان غير المناسب أو عدم تقديرها وتمكينها والاستفادة منها ـــ وحسب الدراسة تصل نسبة ضعف الاستفادة من الطاقات underemployment and underutilization 49 في المائة في السعودية، و46 في المائة في عُمان، و45 في المائة في الإمارات مقارنةً بـ16 في المائة في الدول الأوروبية.
وتشير الدراسة إلى عدة أسباب وراء هذا الضعف في تحفيز وتمكين الموارد البشرية، منها قلة فرص المشاركة في عملية صنع القرار، وعدم وجود ثقافة قبول الآراء والأفكار الجديدة، وسيطرة العلاقات الشخصية كمدخل لفرص، إضافة إلى عدم التناسق بين الخبرة ومضمون الوظيفة وبين المعرفة والسلطة الإدارية وضعف في سياسات تعيين وتفعيل دور الخريجين بعد إتمامهم برامج التعليم وتطوير المهارات. وإضافة لإهدار الوقت والمال الذي يتم إنفاقه على تلك البرامج، تظهر الدراسة أن تعيين الحاصلين على درجات علمية عالية في أماكن غير ملائمة لهم عادةً ما يصيبهم بالإحباط والرحيل من العمل. ويرى البعض أنه مع سيطرة العمالة الرخيصة على سوق العمل وتفضيلها من قبل الشركات وانشغال الحكومات بالاستثمارات الخارجية والأجنبية والتوسع الاقتصادي من خلال استهلاك الموارد غير المتجددة، فإنه لا توجد حوافز للمواطنين للاستثمار في بناء معارف إضافية أو بناء شركات تنافسية خاصة بهم.
ويتضح من التحليل السابق أنه من دون تحسين نظام الحوافز واستراتيجيات الاستفادة من المهارات والمواهب الوطنية، ستنعدم فعالية التعليم وتقل صلته بالأداء. فمن المعروف أنه إذا لم يتم التكامل بين بناء المعرفة والمهارة من جهة وفرص تمكينها واستخدامها في إدارة وتسيير مؤسسات الاقتصاد والمجتمع من جهة أخرى سيقل العائد من الاستثمار في تنمية المعرفة وتضيع فوائدها.
هنا تجدر الإشارة إلى مشكلة ضعف التفكير والتخطيط الاستراتيجي عند صياغة السياسات العامة والتعجل في تطبيق برامج غالبًا كردود فعل متسرعة، حيث يتم إهمال الأهمية الاستراتيجية للتطوير والإصلاح المؤسسي والاقتصادي الشامل والمتوازن. حتى مع ظهور بعض المفردات الجديدة أخيرًا كإدارة ونقل المعرفة والتخطيط للجيل الجديد وتمكين المواهب، لم يتم تناول ومعالجة هذه الموضوعات بشكل جدي ولا يأخذ التشخيص إلى مرحلة التخطيط والتنفيذ.
تمثل زيادة اندماجنا في المناخ العالمي والسباق نحو التنافسية تحديات وضغوطًا جديدة على مجتمعنا من أجل المزيد من التركيز على إدارة وتفعيل موارد المعرفة المحلية من خلال التفكير في تحول جوهري حول كيفية إعداد سياساتنا التنموية وإدارة مواردها. ولن يكون هذا أمرًا سهلاً يمكن تطبيقه بسرعة. ويقال إن عملية التغيير المؤسسي قد تستغرق على الأقل من ثلات إلى خمس سنوات من الجهد المتواصل في الدول المتقدمة، وقد تستغرق أكثر في الدول النامية.
وربما تكون الأزمات الراهنة وبدء عودة أبنائنا المبتعثين فرصة لإعادة النظر في أساليب تنمية وإدارة رأس المال البشري وسياسات توزيع الفرص وتنفيذ سلسلة من التدابير الاستراتيجية لتغيير أسلوبنا في التخطيط والتنفيذ وتركيز قدراتنا على هذه الإشكالية، وهي عملية يمكن من خلالها حل اللغز داخليًّا بتكاتف وتعاون جميع الشرائح المعنية بالتنمية وبشكل فيه نوع من التفكير الاستراتيجي والجاد مع الاعتماد على ما لدينا من القدرات الوطنية وتقليل الولع بالاستشارات والتحليلات والحلول المستوردة التي يغيب عن معظمها الفهم العميق لتعقيدات المشاكل المحلية.