إياك يا صديقي يا جمل .. أن تفقدَ الأمل

..واحدٌ من الشعراء العباقرة قولا وحكمة وجمالا واقتدارا لغويا، نساه الزمن العربي ذو الذاكرة التي تمرر ما تراه صغيرا وتبقي ما تعتقد أنه كبير. كان شاعرنا اليوم كبيراً وما زال، ومع ذلك تسرّب من الذاكرة العربية، هو خليجي لم يعد يذكره كثيرا أهل الخليج، بالتحديد كويتي لهي عنه الكويتيون، بينما حق لهم التفاخر بعقل شعري تقرأ له حكما كحافظ، ونسْجا كييتس شاعر الإنجليز، وشطحات الجمال الأخاذ كترانيم النساك.. هذا الشاعر علمني أن أتأمل، وعلمني أن أتذوق الشعر العربي بعد غربة بين شعر الغرب وآدابهم.. إنه الشاعر المنسي العبقري الكويتي أحمد العدواني.
كنت صغيرا بالكويت أقضي عطلتي الصيفية مع العم أحمد الزامل المقيم بالكويت، يدير شركة كبرى لبعض أهله الكويتيين، وكانت جلسته المسائية تحفل بالثقافة والمثقفين، وسمعتهم يوما يتحدثون عن العدواني ويعيبه بعضهم بتركيبه الشعري، وضياعه في الأوزان وتهالكه بالقافية، وكان عمي يدافع عنه بقوة مع ثلة من المؤيدين، ووقعت الجُمَلُ العربية الناقدة بأذني وكأني أسمع عزفا من عازفات البحارة في قصص الإغريق. وهنا يكون أحمد العدواني معلمي بتذوق اللغة العربية وهو لا يدري وبطريق غير مباشر.
من ذاك اليوم تابعت العدواني مع من أتابع من أكبر شعراء الدنيا، ولما مات في عام 1990م حزنت عليه وأخذني عمّي لبعض أقاربه وكان حزني واضحا وكأن قريبا لي مات.. والحقيقة كان معلما لي ومات. وفقده لم يكن سهلا.
علمني العدواني اعتزازي بأرومتي العربية، وقد جاء هذا مفصلا لي شخصيا، وكل من شكلته الموجة الغربية بشكل كامل، فرغم أن أحمد العدواني كان يتأنق بآخر صيحات البدلات الفرنسية والإيطالية إلا أنه كان عربيا للنخاع وسمعته يقول لمذيعة كويتية لما ساجلته بسذاجة المتثيقفات عن مظهره، أن قال: "أنا بدويٌ صميم، وهل تريديني أن أحضر على جمل، وتأكدي أنه يشرفني ذلك.." وارتبكت المذيعة. نعم الاعتزار بالانتماء لأرضك وجنسك مهما تعاملت مع الدنيا من أركان اتزان الشخصية الفردية. وفي قصائدة النخلة حاضرة، والنخلة، والكثبان، بل حتى العنزة والحمار والراعي والقطيع والبدو الرحل، ويعبر بثقةٍ لانتمائه لعروبته وبلده وصحراويته فوجَّهَ رسالةُ لجمَل:
إياك يا صديقي يا جمل * إياك أن تيأس وتلين* إياك أن تكون.. مثل آخَرين* أدمغةٌ قد نُزعتْ مخاخُها* محشوة بالرمم الملفقة* تفوح من أنفاسها رائحة تعرفها المزابل المحترقة* إياك يا صديقي الجملْ.. أن تفقدَ الأمَلْ
وتعلمت منه متلبّساً الروح الخيامية فهو شاعر يستجلب أرواحَ شعر الكبار بدون أن يطمسوا طعمه وسائغته الشعرية، تعلمت منه التفاؤل والثقة في منَح الحياة، وفي قوة الإرادة التي تتشرب التجارب وتمنحك كل تلك الفرص مها كانت الصعاب في الطريق:
لي في الحياةِ هوى تسامى طائرا ** متلاطم الصبواتِ والأوطارِ
أربى على البركانِ في هيجـانـــهِ ** وأقامَ خيمتَه على الإعصـارِ
تعلمت من أحمد العدواني ألا أخاف الغد وألا أقلق من تقلبات المستقبل، وأن أعمل بالحاضر وأركز في لحظاتي الراهنة لأنها الحجر الذي يرصف طرق الغد ومسالك المستقبل، علمني أن الانتصار الفردي مقرون بكرامة الفرد وباعتزازه بكونه حرّا أبيّاً لا يدوس له أحدٌ على طرف، ولا هو يدوس لأحدٍ على طرف:
"يا غدنا الأخضر..
أزهارهُ عوالم من نور تغازل البدور". يا سلام، ياللروعة ما زالت ترن بأركان وجودي.
فأشاهدُ الأغراس وهي كريــــمــة ** تنمو وتزهو رغم كل حصارْ
لا، لن أحيدَ عن البذار وإن رعتْ ** زرعي الجرادُ بجيشها الجرارْ
وكأن نفســي كـوكـبٌ مـتـألــــِّـق ** يهمي بأفراح السنى الثــــــرارْ
علمني أحمد العدواني ألا آبه للحاسدين والراثين بكسل لأوضاعهم، والمتذمرين، وصناع التشاؤم وأوهام العقبات:
ابتسمي.. ابتسمي.. إن الذبابَ شأنه الطنين.. منذ خلق اللهُ الذباب
ابتسمي إذا تراءت للخفافيش ظلال.. تملأ الرحابْ
ابتسمي، إن الخفافيشَ ستختفي غدا.. فالفجرُ بالأبواب
إني أرجو أن يستفيد شباب الكويت وشبابنا بما أوقده "العدواني" من مشاعل الأمل والتفاؤل والعزم والجهاد للنجاح وإثبات الذات وعتق النفس من أي عبودية سوى عبودية الله.. وألا من سيفهم:
إياك يا صديقي يا جملْ... أن تفقدَ الأمل!

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي