تطبيق الشريعة الإسلامية شعار أم حياة؟ (1 من 3)
مع انصرام عام وأكثر على الربيع العربي، وما أفرزه من تداعيات ما زالت تشغل الساحة العربية وتتأثر البلدان المحيطة بها، مثل فوز بعض الأحزاب المصنفة بأنها إسلامية، وما ينادي به بعض رموزها بتطبيق الشريعة، ومحاربة النظام السابق، كل ذلك تحت شعار تطبيق الشريعة الإسلامية، ولعل من أبرز الأسباب التي أدَّت إلى سوء الفهم وحصول الالتباس حول مفهوم (تطبيق الشريعة) تكمن في منطق الاختزال الذي تمارسه بعض الخطابات الإسلامية المحافظة حين ترفع هذا الشعار، ولا تستحضر في وعيها إلا باب العقوبات والحدود، أو لباس المرأة وفق كيفية معينة، أو تقوم بتضخيم هذين الموضوعين ضمن شعار (تطبيق الشريعة) على حساب المضامين الكبرى المتعلقة بتحقيق (العدالة الاجتماعية) ورفع (الظلم والطغيان). وقد أجاد المفكر البارع عبد الله المالكي حين تطرق إلى هذا الموضوع في كتابه العميق ''سيادة الأمة وكيفية اختزال مفهوم الشريعة الإسلامية''.
وبناءً على هذا الاختزال في المفهوم؛ فإنَّ الدولة التي تطبق الحدود، أو على الأقل تعلن ذلك دون النظر إلى حقيقة واقعها، وتلزم المرأة ببعض الأحكام التي ربما قد تكون في غالبها فتاوى اجتهادية، ومحل اختلاف وتنوع بين المذاهب الفقهية؛ تصبح حينئذ الدولة - وفق هذه الرؤية القاصرة - مطبِّقة للشريعة.. حتى لو كانت مستبدة ولا تقيم العدالة الاجتماعية، وتعتدي على حقوق الأفراد وتنتهك خصوصياتهم وحرياتهم وتعتقل من يعارضها ويخالفها، وربما تستبيح القانون فتقتل وتسفك الدماء وتسرق المال العام، وتمارس الفساد الإداري والمالي في تدبير الدولة، وتمارس التخلف و(الجهل المؤسس) في التعليم والاقتصاد والخدمات، وتعوق فريضة العمران في الأرض: (النهضة والتنمية والرفاه)... إلى آخر تلك الانتهاكات وذلك التعطيل للمطالب والمقاصد الشرعية الكبرى في الإسلام. وتبقى تلك الدولة - وفق هذه الرؤية - مطبقة للشريعة الإسلامية على أساس أنها تنفذ الحدود وتفرض الحجاب! وأما ذلك التعطيل وتلك الانتهاكات الشنيعة حول تلك المطالب العليا والمقاصد الشرعية الكبرى (كالعدالة والأمانة وحفظ الحقوق والحريات والإحسان في تدبير السياسة والحكم)، التي هي بمنزلة الرأس والقلب والروح في جسد الشريعة، لا تعدو أن تكون مجرد تقصير في تطبيق الشريعة! هذا أكبر خلل يمر به الآن مفهوم (الشريعة) - مع الأسف!
حتى ندرك عمق هذا الخلل نحاول أن نَقْلب المثال، ولنفترض دولة مسلمة أخرى لا تلتزم بأحكام الحدود في قانونها العقابي، ولا تلزم المرأة بكيفية معينة في اللباس، لكنها دولة تقيم العدالة الاجتماعية وتحقق المساواة الكاملة في الحقوق والواجبات بين أفراد المجتمع دون تمييز، ويسود فيها القانون وتُحفظ الحريات العامة وتُحترم كرامة الإنسان، ولا تُنتهك خصوصياته الفردية. كما أن الحكومة فيها متوائمة مع شعبها، ويكون للشعب ممثلون ونواب يمارسون المحاسبة والرقابة لأداء الحكومة، في ظل دولة ملتزمة بفريضة (العمران في الأرض)، وتحقيق التنمية والتطور في التعليم والصحة والاقتصاد ورفع مستوى الدخل للأفراد، أمام هذين النموذجين للدولة والمجتمع، نطرح هذا السؤال بتأمل وهدوء: أي الدولتين أقرب إلى تطبيق الشريعة؟ وأيهما أكثر تعطيلاً للشريعة؟
هل هي الدولة التي لم تطبق من الشريعة سوى الحدود وفرض الحجاب، وفي المقابل تمارس صنوف الظلم والفساد والتخلف والجهل والاستبداد، التي بسببها أهدرت وانتهكت قيم ومحكمات ومقاصد الشريعة الكبرى، أم أنها الدولة التي طبقت جميع أو غالبية قيم ومقاصد الشريعة سوى أنها لم تطبق الحدود ولم تفرض الحجاب؟
لقد أجاب الإمام ابن تيمية - رحمه الله - عن هذا السؤال قديماً حين قال كلمته الشهيرة: ''أمور الناس تستقيم مع العدل الذي فيه الاشتراك في الإثم أكثر مما تستقيم مع الظلم في الحقوق وإن تشترك في الإثم، ولهذا قيل: إن الله يقيم الدولة العادلة ولو كانت كافرة، ولا يقيم الدولة الظالمة وإن كانت مسلمة. ويُقال: ''الدنيا تدوم مع العدل والكفر ولا تدوم مع الظلم والإسلام...''؛ فالعدل نظام كل شيء، فإذا أقيم أمر الدنيا بعدل، قامت، وإن لم يكن لصاحبها في الآخرة من خلاق، ومتى لم تقم بعدل؛ لم تقم، وإن كان لصاحبها من الإيمان ما يُجزى به في الآخرة''.
وقد أكد ذلك أيضاً تلميذه ابن القيم حين جعل كل سياسة عادلة، فهي من الشريعة ولو لم يأتِ بها الشرع وكانت من وضع البشر، وهذه الحقيقة المقاصدية الكبرى هي تصديق لقول الله تعالى: ''لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط''، فالحكمة الربانية من إرسال الرسل وإنزال الكتب مع ميزان العقل البشري هي إقامة القسط بين الناس. فـ(القسط) هي الكلمة المركزية المحورية التي ترجع إليها غايات التشريع الإسلامي. أرجو التنبه هنا إلى أن النقاش ليس في كون الحدود والحجاب ليسا من الشريعة، إنما النقاش حول تحديد المفهوم الشامل (للشريعة) هل هو مجرد الحجاب وتطبيق الحدود أم أنها أوسع من هذا بكثير؟
من هنا يظهر الخلل والزيف المعرفي اللذان يحصلان تحت شعار (تطبيق الشريعة) سواء من المطالبين أم من الممانعين، فحتى الممانعين من بعض عتاة العلمانية ما زالوا يمارسون زيفاً معرفياً وتشويهاً متعمَّداًً للحقائق - لا يمارسه كثير من المستشرقين - عندما يصفون الشريعة بالبدائية والتخلف والهمجية والوحشية، وأنها عبارة عن مجرَّد قصاص وسيوف ودماء وجَلْد للظهور ونحو ذلك. والشريعة ليست كذلك! وللحديث صلة في مقالات قادمة - بإذن الله.