الاستماع لصوت الطالب وتحقيق المطالب
لم يعد الطالب اليوم، وبالذات في التعليم العالي، مجرد دمية مسلوبة الإرادة أو حجر شطرنج تنقلها أصابع التحكم من مكان إلى مكان آخر عبر مراحل متراكمة ومتشابهة من الزمن دون أن يكون له دور في تحديد مسار وطبيعة تعليمه. كذلكم يعد التعليم اليوم مهنة لا تتأثر أو لا تؤثر في المحيط الداخلي للمنشأة التعليمية أو البيئة الخارجية اجتماعياً واقتصادياً وسياسياً وأمنياً! بل إن الطالب صار له دور فاعل في التأثير في المجتمعات التي يعيش فيها، خاصة عند وصوله إلى مستوى متقدم من الوعي والفهم والإصرار ليطالب بحقوقه كما حدث ويحدث في مختلف بلدان العالم، وما حادثة بناتنا وأخواتنا في جامعة أبها عنا ببعيد. ولهذا فلا بد من أن تتغير نظرة المجتمع اليوم بكل توجهاته وشرائحه نحو المرحلة الجديدة من التعليم ومدخلاته ومخرجاته والتعامل معها بفهم شامل وتخطيط سديد وتنفيذ متطور. وإن تجاهل هذه الحقيقة الماثلة للعيان في زمن الثورة المعلوماتية الرهيبة المواكبة لها وعدم الانتباه لما ترتبط به من تغيرات ومآلات ستؤدي لا محالة إلى نتائج غير محسوبة قد تتجاوز الحدود الزمانية والمكانية.
ولهذا فإن التعامل مع التعليم يجب أن يتبنى منهجيات إدارية تتسم بالتطور والشمولية والتكامل والمعاصرة ومنها منهجيات الجودة والتميُّز وفق آليات وتطبيقات سليمة تخطيطاً وتنفيذاً وتقويماً. والجودة في العملية التعليمية ترتكز على الوصول إلى رضا المستفيدين من التعليم وأصحاب الشأن من المجتمع بكل عناصره وبالتأكيد .. وبلا شك .. فإن الطالب نفسه هو رحى العملية التعليمية وقلبها النابض الذي ينبغي أن تنصب عليه وحوله الجهود. إن الاستماع إلى صوت الطالب وفهم احتياجاته الظاهرة والضمنية والتعرف عليها هو الخطوة الرئيسة الأولى في تحقيق الجودة في التعليم ومن دونها فلن تتحقق ولو بذل من الأموال والجهود ما بذل. حيث يجب وبكل بساطة ودقة التعرف على مواصفات واحتياجات الطالب التعليمية المباشرة وغير المباشرة وتوقعاته ومن ثم تنفيذها بكل مهنية وتطويرها وتحسينها بصورة مستمرة لا تواني فيها أو تقصير. وهذا ما تتنافس المنشآت التعليمية في الدول المتقدمة شرقاً وغرباً على فعله من أجل جعل البيئة التعليمية بيئة ماتعة للطالب ومعينة له على الإبداع والنجاح.
إن الاستماع إلى صوت الطالب ليس مجرد إعطائه الفرصة في إيصال رأيه وأفكاره، بل يجب أن يتعدى ذلك إلى إبداع الوسائل لتحفيز الطالب نفسه على المشاركة في تقديم آرائه وإسماع صوته وليكون ذا أثرٍ فاعل في تحديد طرق تعليمه وتطويرها وإعطائه الحق والقوة في مشاركته في التغيير وقبول ذلك فردياً وجماعياً، وهذا من أبسط حقوقه الممنوحة له أصلا.
وهنالك العديد من الوسائل والأدوات التي يمكن اتخاذها لفهم الطالب والتعرف على احتياجاته ورغباته، التي تتطلب تسخير كل الطاقات والإمكانات وسن الأنظمة والاهتمام من الجميع ابتداء من القيادات العليا للمؤسسات التعليمية وانتهاء بالمقدم المباشر لخدمة التعليم الشريفة والرائدة من أساتذة ومعلمين. منها ما يلي:
• لا بد أن تتغير توجهات وقناعات القيادات التي تدير المؤسسات التعليمية نحو مفاهيم الإدارة التعليمية الحديثة، التي تحترم الطالب وتركز على تهيئة كل السبل لتعينه على الانتفاع من العلوم التي يتحصل عليها ومن ثم ليكون لبنة صالحة ينتفع منها المجتمع. حتى ولو احتيج لتجديد الدماء في قيادات المؤسسات التعليمية بصورة دورية وبالذات كل من لا يزال عائقاً في التعامل مع فهم الطالب وتحقيق مطالبه المشروعة. وهنا أنوه إلى أهمية وضع المعايير الواضحة في اختيار هذه القيادات وإشراك الطالب في جزء من هذه المنظومة.
• سن القوانين والأنظمة الصارمة من قبل وزارة التعليم على المؤسسات التعليمية التابعة لها لغرس الشفافية والحوكمة التعليمية إن صح التعبير كوضع لائحة حقوقية وإجراءات تبين حقوق الطالب وكيفية إعطائه هذه الحقوق، ومن ذلك وضع وتحديد المؤشرات والمقاييس الفاعلة لرضا الطالب والمتابعة الدقيقة لرصدها دورياً من خلال الاستبيانات الورقية أو الإلكترونية وغيرها من الوسائل وعرض نتائجها للجميع وبكل شفافية، وتقييم المنشآت الجامعية في ضوء نتائجها، ومن ثم علاج القصور في التعامل معها سواءً عن طريق المؤسسة التعليمية نفسها أو عن طريق المؤسسات الرقابية والتطويرية الأخرى في المنظومة التعليمية، مع الاستفادة من التجارب الناجحة للآخرين محلياً وإقليمياً ودولياً.
• فتح المسؤولين أبوابهم وقلوبهم وآذانهم وبكل مصداقية للطلاب للاستماع لمشاكلهم واحتياجاتهم من خلال لقاءات دورية مباشرة وغير مباشرة مع أهمية تفعيل دور الشبكات الاجتماعية الحديثة بفاعلية، وأقترح الاستفادة من بعض الممارسات الإدارية الناجحة في فهم متطلبات المستفيدين والتعرف على مستوى الخدمات المقدمة لهم كالمتسوق السري، وفي التعليم الطالب السري الذي يوجه فقط لمثل هذه الأهداف.
إن الاستماع الصادق المثمر إلى لبنة المستقبل التي من أجلها أنفقت المملكة ربع ميزانيتها الأخيرة، إنما هو من أجل المساهمة الفاعلة في تحقيق الاستراتيجيات والأهداف التنموية الرئيسة للبلاد، ومن دون التركيز على الطالب وفهم احتياجاته ومتطلباته وتحقيقها فيما يواكب الاحتياجات الأخرى للمجتمع، لن نصل إلى ما نريد تحقيقه ويُخطط له. وإن الوزارات المعنية بذلك وبالذات وزارة التعليم العالي والتعليم العام عليهما واجب كبير ومسؤولية ريادية لنشر ثقافة الاستماع لصوت الطالب وتحقيق مطالبه وتفعيل دوره في العملية التعليمية وتحفيزه نحو الإيجابية والمشاركة الفاعلة. وسعدت كثيراً بالخطوة الجيدة بمبادرة تطوير استراتيجيات وطرق التعلم المتمركز حول الطالب في الجامعات السعودية والتي وقع على اتفاقياتها وزير التعليم العالي، وهذه هي البداية التي تستدعي مزيدا من الجهود العملية في هذا المجال اهتماماً وتنفيذاً وتطويرا .. فالوقاية خيرٌ من العلاج.