دور نفط الشرق الأوسط في الاستراتيجية الدفاعية للصين

لعب النفط كسلعة استراتيجية دورا أساسيا في تشكيل القوة العسكرية للدول العظمى خلال القرن العشرين. وإن كان حجم القوة العسكرية هو ناتج القدرة الاقتصادية، فإن انتشار وتوزيع هذه القوة واستراتيجياتها تحددها متطلبات حماية المصالح الاقتصادية والتجارية، خاصة أمن خطوط نقل السلع الحيوية ومناطق وجودها.
وتبرز هذه العلاقة بوضوح في تطور القوة العسكرية للولايات المتحدة الأمريكية وتحديد سماتها، حيث تطلب حماية خطوط تجارتها الطويلة عبر المحيط الأطلسي إلى أوروبا وإفريقيا والشرق الأوسط وعبر المحيط الهادي إلى الشرق الأقصى، وإنشاء أقوى قوة بحرية وأوسعها انتشارا. وقد نمت هذه القوة البحرية وتوزعت قواعدها مع نمو واردات الولايات المتحدة من النفط الآتي من منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، ومع ازدياد حاجتها إلى إمداد حلفائها في أوروبا وآسيا خلال الحرب العالمية الثانية، فضلا عن حماية خطوط إمدادات قواتها المتمركزة حول العالم.
وكما كان الأمر للولايات المتحدة الأمريكية إبان صعودها الاقتصادي، فإنه أيضا للصين التي شهدت، منذ اعتمادها سياسة الانفتاح الاقتصادي في عام 1978، نموا اقتصاديا مستمرا لتصبح اليوم ثاني اقتصاد في العالم من حيث الحجم بعد الولايات المتحدة الأمريكية، حيث شهدت القوات المسلحة الصينية تطورا جذريا منسجما مع التطور الاقتصادي، أصبحت معه تمثل منظومة متكاملة من القوات البرية والبحرية والجوية، فضلا عن شبكة متقدمة من الأقمار الصناعية للأغراض العسكرية.
وقد بدأت الصين بسط نفوذها في غرب المحيط الهادي في المياه المحاذية لمياهها الإقليمية التي تشمل البحر الأصفر وبحر الصين الشرقي وبحر الصين الجنوبي، الأمر الذي أثار مخاوف جيرانها من حلفاء الولايات المتحدة الأمريكية كاليابان وتايوان وكوريا الجنوبية، وآخرين مثل فيتنام وكمبوديا. كما قامت بتحديد ما اعتبرته نطاقها الحيوي الأول الذي يشمل مضيق جزيرة تايوان المتنازع عليها، إذ هددت باحتلال الجزيرة في حال خطت نحو الاستقلال، وحيث إن الولايات المتحدة الأمريكية هي القوة العسكرية الرئيسة الموجودة في المنطقة، وتوفر المظلة الدفاعية التكتيكية والاستراتيجية لحلفائها، فقد كثرت أخيرا التحليلات والتكهنات حول تطور الموازنة العسكرية بين هذين العملاقين.
وكان من النتائج الأولية لهذه التطورات التحول الأخير في استراتيجية الولايات المتحدة الأمريكية المتمثل في نقل محور سياستها الدفاعية والأمنية من منطقة الشرق الأوسط الكبير إلى منطقة الشرق الأقصى. هذا فضلا عن تعزيز قوتها في جزر الفليبين وأستراليا، حيث تتمثل الأهمية الاستراتيجية لهذه المواقع في قربها من مضيق مالاجا الاستراتيجي في المياه الفاصلة بين ماليزيا وإندونيسيا، وهو الممر الإلزامي لحركة النقل بين الصين ودول شرق آسيا الأخرى، من جهة، وبقية العالم من جهة أخرى. وهذا ما يفسر جزئيا سحب قواتها من العراق وتعجيل انسحابها من أفغانستان في المستقبل القريب. ولا شك أن التطورات المهمة التي يشهدها قطاع الطاقة في الولايات المتحدة الأمريكية المتمثل في عودة نمو إنتاجها المحلي من النفط والغاز، وتوقع انخفاض وارداتها من الطاقة إلى مستوى يمكن توفيره من مصادر مجاورة في القارة الأمريكية، مثلت عاملا حاسما في هذا التحول الاستراتيجي.
في المقابل، ومع النمو الكبير المتوقع في حاجة الصين إلى الواردات من النفط والغاز، خاصة تلك الآتية من منطقة الشرق الأوسط، فليس من المستبعد قطعيا أن تدخل المنطقة في النطاق الحيوي الاستراتيجي المتمدد للصين، الأمر الذي يترتب عليه تعزيز وجودها العسكري في منطقة المحيط الهندي والبحر العربي لغرض حماية إمداداتها النفطية من منطقة الخليج العربي وإفريقيا، حيث إن وجودها الحالي المتمثل في بعض القطع البحرية الموجودة قرابة السواحل الشرقية لإفريقيا، التي اقتصرت عملياتها على حماية السفن التجارية من أعمال القرصنة المنطلقة من الصومال، لا توفر لها التوازن في القوة مع الوجود العسكري الكبير للولايات المتحدة الأمريكية في المنطقة، لكن هذا الوجود، مع تواضعه، يعد مقدمة طليعية لوجود عسكري أكبر وأفعل في المستقبل يؤمن الحماية لمصالحها المتنامية في المنطقة.
تضيف هذه التطورات المحتملة في الاستراتيجيات العسكرية للصين والولايات المتحدة الأمريكية تعقيدات إلى علاقتهما الحذرة فيما يتعلق بالبعد الأمني منها، على الرغم من اتساع نطاق وعمق البعد الاقتصادي والتجاري لهذه العلاقة، حيث يشوب الجانب العسكري ضعف الثقة بين الجانبين، فالصين تفسر التحول في الاستراتيجية الأمريكية نحو الشرق الأقصى وتحركاتها العسكرية في المنطقة على أنها جزء من عملية احتوائها، بينما تنكر الإدارة الأمريكية تهمة الاحتواء وتتهم الصين في المقابل بأنها تسعى إلى تقليص نفوذ الولايات المتحدة الأمريكية وإضعاف فعالية وجودها العسكري والأمني في مناطق طالما كانت في نطاق نفوذها التقليدي.
ما ستؤول إليه العلاقة بين هاتين القوتين في المستقبل هو موضوع يشغل العديد من الأوساط ومراكز القرار حول العالم، لكن أي مسار سترسو عليه هذه العلاقة ستترتب عليه تحديات كبيرة وغير معهودة لدول منطقة الشرق الأوسط، بسبب مركزية عامل النفط في منظومة المصالح الاستراتيجية لكلتا الدولتين من جهة، ومركزيته من جهة أخرى، في منظومة مصالح دول المنطقة الاقتصادية والأمنية.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي