اليوان الصيني .. عملة رسمية لزمبابوي!
حكاية الصين مع إفريقيا حكاية طويلة ذات شجون. ففي حقبة المعلم ''ماو تسي تونج'' استخدم الصينيون الحـُمر القارة الإفريقية السوداء ساحة لحروبهم الأيديولوجية وتصفية حساباتهم مع خصومهم الغربيين، وأيضا كساحة للتنافس على النفوذ مع رفاقهم الشيوعيين في الاتحاد السوفياتي، وذلك من خلال دعمهم لما سـُمي وقتها ''حركات التحرر الوطني'' بالسلاح والعتاد ووسائل غسل الأدمغة ككتب التنظيرات الفارغة، وتسجيلات المارشات العسكرية، و''بوسترات'' النضال ومقاومــــــة الإمبرياليـــــــة والرأسمالية، وأزياء حروب العصابات.
لكن بتحرر معظم الأقطار الإفريقية من الاستعمار الأجنبي، معطوفا على زوال حقبة ''ماو'' الهوجاء لاحقا، واعتماد خلفائه، ولا سيما منذ عهد الزعيم الإصلاحي ''دينج هيسياو بينج''، سياسات خارجية برغماتية وأقل راديكالية، حرص الصينيون أن يعززوا نفوذهم في القارة السمراء من خلال وسائل أخرى. ولأن بكين في حقبة ما بعد المعلم ''ماو'' تحولت إلى قطب اقتصادي وتجـــاري لا يستهان به (ما بين تولي دينج للسلطة ووفاته في عام 1997 مثلا ارتفعت قيمة تجارة الصين الخارجية من 21 إلى 325 مليار دولار) وقوة صناعية بارزة على المستوى العالمي، فقد اتخذت من الاقتصاد والتجارة والمال (مع شيء من الثقافة ممثلا في افتتاح معاهد كونفيشيوس لتدريس الصينية وآدابها) سبيلا إلى إحكام سيطرتها على بعض الدول الإفريقية، وخصوصا تلك المعروفة بمخزونها من الطاقة والموارد الطبيعية الأخرى (حديد، نيكل، نحاس، زنك، ألمنيوم، أخشاب) ذات الصلة باستمرار ازدهار الاقتصاد الصيني. وقد ساعدها على ذلك جملة من العوامل منها انشغال الدول الكبرى الأخرى بأماكن وقضايا خارج الساحة الإفريقية، وتفشي الفقـــــر والمرض والجهل واستفحال البطالة، واهتراء البنية التحتية، وغير ذلك من الأمور التي استغلها الصينيون بمهارة لكسب ود وثـقة الأفارقة وحكوماتـهم من خلال المشـروعات والقروض والاستثمارات.
وقد ظهر هذا المنحى جليا في آخر مؤتمر وزاري للمنتدى الصيني ــــ الإفريقي ''عقد في تشرين الثاني (نوفمبر) من عام 2009 في شرم الشيخ''، حيث أعلنتْ بكين على لسان رئيس حكومتها ''وين جياباو'' أنها خصصت نحو عشرة مليارات من الدولارات لتقديمها كقروض ميسرة للدول الإفريقية خلال ثلاث سنوات، وأنها تنوي لعب دور أكبـر على الساحة الإفريقية ''من أجل تحقيق السلام والاستقرار والتنمية'' بحسب تعبير ''جياباو''، وأنها عقدت العزم على إعفاء منتجات الدول الإفريقية الأقل نموا من تلك التي تقيم معها (وليس مع تايوان) علاقات دبلوماسية من الرسوم الجمركية بنسبة 95 في المائة، وعلى دعم المؤسسات الصينية المالية المنخرطة في تقديم القروض إلى الشركات الإفريقية الصغيرة والمتوسطة، علاوة على الاستمرار في تخفيض أو إلغاء الديون المسـتحقة للصين على بعض الأقطار الإفريقية (عقدت الصين منذ 2006 اتفاقيات بهذا الشأن مع 31 دولة في إفريقيا، وبلغ إجمالي ما أسقطته عنها من ديون نحو عشرة مليارات دولار).
ومن هنا لم يكن غريبا أن يصل حجم التبادل التجاري ما بين الطرفين في عام 2008 مثلا إلى رقم غير مسبوق هو 107 مليارات دولار، بعدما كانت قيمته في عامي 2000 و2006 هي 15 و55 مليار دولار على التوالي.
وفي السياق نفسه لم يكن غريبا أن تستحوذ الصين بمفردها على 13 في المائة من إجمالي ناتج القارة من النفط (معظمه من ليبيا والجزائر وجنوب السودان وأنجولا وموزمبيق) وأن تنفذ الصين في إفـريقيا حتى الآن نحو 1600 مشروع يراوح ما بين بناء السدود ومحطات الطاقة المائية وإنشاء المصارف والمستشفيات والمدارس ومراكز مكافحة الملاريا ومحو الأمية ومعامل الغزل والنسيج وتطوير المناجم والبنية التحتية مثل الطرق وشبكة الاتصالات والمياه.
ومن بين أكثر الأمثلة الناجحة للتغلغل الصيني في إفريقيا ما يحدث اليوم في زمبابوي التي تحولت من حليف سابق لأوروبا والولايات المتحدة إلى حليف لبكين بعد أن شدد حلفاؤها السابقون الخناق على النظام الديكتاتوري لرئيسها ''روبرت موجابي''. والمعروف أن الأخير اعتمد في عام 2004 سياسة ''الاتجاه شرقا''، داعيا بموجبها الصينيين إلى مساعدة بلاده للتحرر من ''السيطرة الغربية'' في مجالات الاستثمار والإقراض وخلق فرص العمل.
وبطبيعة الحال مثلت تلك الدعوة فرصة العمر للصينيين الذين تزايد عددهم بصورة مطردة مذاك حتى صاروا شيئا فشيئا جزءا من المجتمع المحلي، رغم أن مواطني زمبابوي من الأفارقة ينظرون إليهم بعدم الارتياح، وغالبا ما يصفونهم بـ ''قوى الاستعمار والهيمنة الجديدة'' أو يأخذون عليهم ضعف قدراتهم، وبالتالي عدم إتقانهم لأعمالهم وخدماتهم.
على أن المثير في هذا السياق هو الدعوة التي وجهها في العام الماضي جيديون جونو حاكم المصرف الاحتياطي وأحد المقربين من ''موجابي'' بضرورة اتخاذ العملة الصينية (اليوان) كعملة رسمية للبلاد، خصوصا أن زمبابوي منذ أن ألغت عملتها الرسمية (الدولار) في عام 2008 بسبب التضخم، لجأت إلى نظام نقدي متعدد العملات يضم الدولار الأمريكي، إلى جانب الراند الجنوب إفريقي والبولا البوتسوانية.
وبكين، طبعا، لا تمانع بل تتمنى رؤية الاقتراح مطبقا على أرض الواقع لأن من شأن ذلك أن يساعدها على تحقيق حلمها في رؤية عملتها الوطنية تستخدم في التبادلات التجارية الدولية، أي كما هو حال الدولار الأمريكي. ويـُقال إن بكين أوحت إلى بعض أصدقائها داخل الدائرة الضيقة المحيطة بـ ''موجابي'' أن يستخدموا نفوذهم من أجل إقناع الأخير بالأخذ بنظام نقدي جديد في زمبابوي يكون عماده اليوان الصيني ودولار زمبابوي القديم، وليس اليوان وحده، وذلك من باب عدم إثارة حفيظة الزمبابويين المشككين في النيات الصينية.
والحقيقة أن اليوان الصينـي بات يتألق أخيرا في التسويات التجارية في أكثر من منطقة، من بينها منطقة الخليج المعروفة تقليديا بارتباط عملاتها وتقويم صادراتها النفطية بالدولار الأمريكي، وإن كان الأمر يقتصر حتى الآن على الشركات الكبيرة ومستوردي السلع الأولية في الإمارات، ناهيك عن استبعاد فكرة سداد صادرات النفط الخليجي إلى الصين باليوان في المدى المنظور. ويتوقع البعض أن يزداد هذا التألق مع نمو تجارة الصين مع دول الخليج والشرق الأوسط وشمال إفريقيا.
وطبقا لما أورده الملحق الاقتصادي لصحيفة ''الشرق الأوسط'' اللندنية (عدد 3 مارس 2012) فإن بكين شجعت الاستخدام الدولي لعملتها منذ عام 2009، حينما دشنت برنامجا تجريبيا يتيح لشركاتها العاملة في بعض الأقاليم تسوية الواردات والصادرات باليوان. ومنذ ذلك الحين صار البرنامج يتوسع، حتى زادت نسبة التجارة الصينية التي تسوّى باليوان من 1 في المائة في 2010 إلى 7 في المائة في 2011. ولعل هذه الأرقام هي التي جعلت مسؤولي ''مجموعة هونج كونج وشنغهاي المصرفية'' (إتش إس بي سي) يتوقعون أن تستخدم الصين اليوان في تسوية أكثر من نصف تجارتها العالمية بحلول عام 2015 أي ما يعادل تريليوني دولار.