القادة الأتراك وحالة الانفصام!
الزيارة التي قام بها رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان يومي الأربعاء والخميس الماضيين للعاصمة الإيرانية، في طريق عودته من قمة الأمن النووي التي عُقدت في عاصمة كوريا الجنوبية، وإن احتوت أجندتها على ملفات عدة كالعلاقات التجارية بين البلدين والخلاف حول سعر الغاز الإيراني والمحادثات بين طهران ومجموعة ''5+1'' بشأن برنامج إيران النووي، إلا أن الملف السوري كان الأهم والشائك من بين هذه الملفات، بل كان السبب الرئيس لهذه الزيارة.
وكان من أبرز أهداف الزيارة إقناع القادة الإيرانيين بأن النظام السوري سيسقط عاجلاً أو آجلاً، وأن بشار الأسد لا يمكن أن يصمد أمام شعب ثائر لم يتراجع رغم المجازر وشلالات الدم، لكن عدم تطرق الجانبين خلال الزيارة إلى موضوع سورية وإلغاء المؤتمرات الصحافية وتأجيل الرئيس الإيراني محمود أحمدي نجاد لقاءه مع أردوغان، كلها مؤشرات تؤكد بشكل واضح أن الخلاف العميق بين تركيا وإيران في مسألة الحل للأزمة السورية لا يزال يراوح مكانه.
ومهما فشلت زيارة أردوغان لطهران في إقناع القادة الإيرانيين بضرورة التعاون في إسقاط النظام السوري وتجاوز الأزمة في سورية قبل أن تنزلق المنطقة إلى الاصطفاف الطائفي، فإنها نجحت في إثبات أن إيران لن يتخلى عن النظام السوري ومشروع الهلال الشيعي حتى لو ملأت الدماءُ الأوديةَ، وتحولت الأرض السورية كلها إلى المقابر. لكن المهم أن تستوعب الحكومة التركية هذا الدرس الذي تلقته في زيارة أردوغان للعاصمة الإيرانية، وأن تعيد حساباتها في ظل تلك المعطيات الجديدة المؤكدة.
القيادة الإيرانية أكّدت أن إيران ''ستتصدى بقوة لأي مشروع أمريكي المنشأ يستهدف سورية وستدافع عنها؛ لأنها تدافع عن الخط المقاوم في وجه العدو الصهيوني''، كما عبَّر المرشد الإيراني الأعلى علي خامنئي خلال استقباله أردوغان في مدينة مشهد، وأبلغه أن بلاده تؤيد ''الإصلاحات'' التي أعلنها بشار الأسد. ونقلت وكالة الأناضول للأنباء عن خامنئي قوله إنهم ''مستاءون من إراقة دماء المسلمين في سورية''، مشددًا على أن الشعب السوري يجب أن يحدد مصيره عبر الانتخابات.
ما تناقلته وسائل الإعلام الإيرانية والسورية حول التأكيد الإيراني على استمرار الدعم للنظام السوري واضح ومفهوم، وهذا ما تعودنا سماعه منذ اندلاع الثورة السورية، لكن ما نقلته وكالة الأناضول للأنباء بشأن استياء خامنئي ورأيه في تحديد المصير ليس سوى محاولة الضحك على العقول، إذ لا يصدق العاقل أن يكون من يرسل إلى النظام السوري أسلحة فتاكة ويزوِّده بالمال والعتاد والكوادر ليقتل شعبه مستاء من ذلك، كما أن قول من يساند الدكتاتورية في سورية بكل ما أوتي من القوة: إن الشعب السوري يجب أن يحدد مصيره عبر صناديق الاقتراع يبدو كنكتة سخيفة، أو إنه ربما قصد بالانتخابات تلك المهزلة التي ستجري في أيار (مايو) في ظل القمع والاستبداد التي ستكون بلا شك أسوأ من لعبة الانتخابات الإيرانية المزورة.
رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان تحدث في المؤتمر الصحافي الذي عقده في المطار في العاصمة التركية بعد عودته من إيران، ووصف زيارته بـ''المثمرة''، وأشار إلى اقتراح القادة الإيرانيين التعاون الثلاثي بين إيران وروسيا وتركيا لحل الأزمة في سورية، وأكد أردوغان أن انعدام الاستقرار الإقليمي سيترك آثاره السيئة في جميع شعوب المنطقة بما فيها تركيا وإيران، مضيفًا أنه نقل وجهة نظره هذه للمسؤولين الإيرانيين خلال اجتماعاته في إيران، وقال ''أكدنا مرة أخرى أننا نفكر بالطريقة نفسها، كما أعربنا عن تصميمنا على مواصلة جهودنا الملموسة مع جارتنا وشقيقتنا إيران للإسهام في الاستقرار والتنمية الإقليمية''.
وزير الخارجية التركي أحمد داود أوغلو لفت بدوره إلى رفض إيران التدخل الخارجي في سورية، مجدِّدًا أن تركيا أيضًا تفرض ذلك، وقال ''يمكن أن نعمل معًا على هذه الأرضية المشتركة''. وشدَّد على أن تركيا لن تكون طرفًا في أي اصطفاف في المنطقة، وهكذا قدَّم لنظام الملالي الذي يسعى إلى تحييد تركيا في صراعه مع العرب غطاء وشيكًا مفتوحًا ليكمل مشاريعه الطائفية.
القادة الأتراك يؤكدون في كل مناسبةٍ وقوفَهم إلى جانب الشعب السوري وثورته، وأنا شخصيًّا أعتقد أنهم صادقون فيما يقولونه، لكنهم في الوقت نفسه يتخيلون أن الأزمة السورية يمكن حلها من خلال العمل المشترك مع إيران وروسيا، ويقولون إن الأمن الوطني التركي يستدعي التدخل في سورية، متجاهلين أن الأمن الوطني الإيراني يستدعي بقاء النظام السوري، ويعبرون عن احترامهم للشعب الثائر الذي صمد أمام آلة القتل والدمار سنة كاملة رغم وقوع مجازر بشعة لم يشهد التاريخ مثيلاً لها إلا نادرًا، لكنهم يرفضون في المقابل - حتى الآن - تسليح الجيش السوري الحر الذي يقاتل لحماية هذا الشعب، ويرغبون في أن تلعب تركيا دورًا قياديًّا في المنطقة إلا أنهم يفِرُّون من القيام بهذا الدور.
التاريخ يحمِّل القادة الأتراك في هذه المرحلة مسؤولية كبيرة تجاه شعبهم وشعوب المنطقة، وهم قادرون على تحمل هذه المسؤولية بشرط ألا يتهربوا منها، متذرعين بحجج واهية، وأن يتخلصوا من الأوهام، وأن يفُكُّوا الارتباط باللوبي الإيراني الذي ترعرع في أحضانهم، وألا يخافوا من مواجهة الحقائق. وإن لم يفعلوا ذلك وظلُّوا أسرى حالة الانفصام فسيفوتهم القطار.