مأزق هندي اسمه «النفط الإيراني»
تستورد الهند ثلثي حاجتها من النفط البالغة 2.2 مليون برميل يوميًّا من منطقة الشرق الأوسط، حيث تزودها السعودية بنسبة 18 في المائة، فيما تأتي إيران في المركز الثاني بنسبة 12 في المائة، أما الباقي فيأتي من الكويت والإمارات والعراق بنسب تراوح بين 8 و10 في المائة. ويتوقع أن تزيد حاجتها إلى هذه الواردات في عام 2012 لتصل إلى 3.3 مليون برميل يوميًّا.
وهكذا نرى أن إيران تلعب دورًا ليس قليلاً في تلبية حاجة الهنود من الخام الذي لا ينتجون منه سوى 28 في المائة من حاجتهم طبقا لإحصائيات 2009، من بعد أن كانوا ينتجون في الثمانينيات نصف حاجتهم تقريبًا. غير أن المشكلة التي باتت تواجههم لا تكمن فقط في الضغوط التي يتعرضون لها من الأمم المتحدة وواشنطن ودول الاتحاد الأوروبي وإسرائيل للتوقف عن شراء النفط الإيراني تطبيقًا للعقوبات الدولية المفروضة على طهران بسبب برنامجها النووي الطموح، إنما في طريقة سداد فواتير الخام المستورد (تصل قيمتها إلى 13.5 مليار دولار) بسبب الحظر المفروض على البنك المركزي الإيراني.
فعلى الرغم من أن نيودلهي وافقت على القرارات الأممية ذات الصلة بمعاقبة طهران على برنامجها النووي، فإنها في الوقت نفسه لا تطبق الإجراءات المفروضة عليها من قبل الأمريكيين والأوروبيين من تلك الخاصة بالامتناع عن شراء النفط الإيراني، الذي تعد الهند ثاني أكبر مستورد له بعد الصين بحسب أرقام العام الماضي.
وأعرب الأمريكيون عن صدمتهم العميقة من قرار نيودلهي الاستمرار في شراء الخام الإيراني كالمعتاد، مضيفين أنه يشكل إعاقة لسياساتهم الهادفة إلى فرض العزلة على طهران، و''إن الهند لا تزال تتصرف كلاعب إقليمي، وليس كلاعب دولي''.
وسارعت الصحافة الهندية بالرد قائلة: ''إن العكس هو الصحيح''! فرفض نيودلهي الانصياع لطلبات واشنطن وحلفائها سمة من سمات اللاعب الدولي المستقل الذي لا يذعن لإملاءات الآخرين، إنما يفعل ما تتطلبه مصالحه وأولوياته''. ويرى المحللون الهنود أن القضية لا تتعلق بحاجة بلادهم إلى النفط بقدر ما هي إحداث توازن في عالم شديد التعقيد ذي عوامل متداخلة اقتصادية وسيادية واستراتيجية، الأمر الذي يتطلب سياسة خارجية مستقلة تحافظ بها البلاد على علاقات حميمية مع جميع الأطراف المتخاصمة في منطقة الشرق الأوسط كإيران وإسرائيل ودول الخليج العربية.
والهند، كما يعلم المتابع لسياساتها الخارجية، حاولت منذ زمن أول رؤساء حكوماتها ''جواهر لال نهرو''، وما زالت تحاول أن تكون حذرة في علاقاتها الخارجية التي يمكن اعتبارها صدى لأوضاعها الداخلية. فمثلاً هي مضطرة إلى ألا تتبنى سياسات تسبب قلقًَا في دول الخليج العربية، ليس لأن الأخيرة موردة رئيسة لحاجتها من الطاقة، وليس لأنها شريكة لها في استثمارات معتبرة، وليس لأنها سوق للملايين من عمالتها، إنما أيضًا خوفًا من إثارة مشاعر سكانها المسلمين السنة البالغ عددهم أكثر من 100 مليون نسمة. في الوقت نفسه لا تريد الهند أن تظهر كقوة معادية لإيران ليس بسبب الـ12 في المائة من حاجتها من الخام الذي تتزود بها من طهران، وإنما لأسباب جيوسياسية، ناهيك عن خوفها من إثارة مشاعر نحو 36 مليونًا من مواطنيها الشيعة أو ما في حكمهم.
على أن هذا ليس مأزق الهنود الوحيد، فهم من جهة أخرى لا يريدون التمادي في إغضاب الأمريكيين والأوروبيين بسبب حرصهم على جذب الاستثمارات الأمريكية والأوروبية، وحرصهم على استمرار وتنشيط المبادلات التجارية الضخمة بين الطرفين، ولا يريدون إغضاب الإسرائيليين الذين يزودونهم بالتكنولوجيا العسكرية المتطورة.
ولعل ما يبرهن على أن سياسات نيودلهي الخارجية دائمًا تراعي العوامل الداخلية وقت رسمها- هو تأخر الهند طويلاً في إقامة علاقات دبلوماسية كاملة مع تل أبيب، إلى ما بعد فتح الفلسطينيين والعرب قنوات اتصال مباشر مع إسرائيل وتبادل التمثيل الدبلوماسي معها. أما البرهان على محاولتها أن تكون برغماتية حيال القوى العظمى، فنجده في توقيعها على اتفاقية نووية للأغراض السلمية مع واشنطن، ثم محاولاتها التملص من تبعات الاتفاقية التي يقال إنها شملت بنودًا سرية تجعلها تلعب دورًا لمصلحة واشنطن في مواجهة القوة الصينية المتعاظمة في جنوب وجنوب شرق آسيا. هذا ناهيك عن استمرار علاقاتها العسكرية الوطيدة بموسكو التي كانت حليفة استراتيجية لها زمن الحرب الباردة.
نأتي الآن لتناول المأزق الآخر عند الهنود، وهو كيفية دفع قيمة فواتير وارداتهم من الخام الإيراني، فخلال العامين الماضيين راحت الهند تبحث عن آلية مناسبة للخروج من هذا المأزق الناجم عن حزمة العقوبات المفروضة على طهران.
والمعروف أن الهند كانت حتى 2010 تستخدم في دفع فواتيرها النفطية ''تسهيلات الدفع الآسيوية'' التي رتبتها في 1974 لجنة الأمم المتحدة الاقتصادية والاجتماعية لآسيا والباسفيكي، من أجل مساعدة الدول الآسيوية النامية على الاقتصاد في مخزونها من احتياطيات النقد الأجنبي. وبموجب هذه الخطة كان مسموحًا لتلك الدول أن تبيع وتشترى من بعضها بعضًا بالمقايضة أو باستخدام وحدات النقد الآسيوي المرتبطة بالدولار.
لكن ابتداء من كانون الأول (ديسمبر) 2010، قررت نيودلهي بضغط من واشنطن أن تتخلى عن الآلية المذكورة، وأصدر مصرفها المركزي تعليمات مشددة بضرورة أن تكون كل المبادلات التجارية مع إيران بأي عملة أجنبية صعبة. وهكذا صارت الهند تتاجر مع إيران مذاك من خلال آلية دفع معقدة، وتستخدم مصرفًا إيرانيًّا - أوروبيًّا في مدينة هامبورج لتسوية حساباتها مع الطرف الإيراني بعلم وإشراف البنكين المركزيين الألماني والهندي. وبهذه الوسيلة لم تخرق الهند العقوبات الأممية ضد إيران، كما أن واشنطن تحققت من خلالها بأن الأموال التي تدفعها الهند لقاء الخام لا يستخدم في تمويل البرنامج النووي الإيراني. غير أن شكوكًا حامت حول وجود تلاعب في المصرف المذكور، الأمر الذي جعل واشنطن تضغط على برلين لعمل شيء ما، إلى أن أثمرت تلك الضغوط بحلول نيسان (أبريل) 2011 عن قيام الأخيرة بضرب حلقة الاتصال التجاري الوحيدة بين الهند وإيران. هنا جاء دور مصرف ''هالك بانك'' التركي ليحل مكان المصرف الأوروبي الإيراني، خصوصًا أن أنقرة سمحت لهذا المصرف (تمتلك الدولة 75 في المائة من أسهمه) بالعمل كقناة بين إيران والدول المتعاملة معها تجاريًّا، ناهيك عن أنها في الوقت الذي تعهدت فيه بتطبيق العقوبات الأممية لعام 2010 ضد إيران، فإنها رفضت توسيعها كما أراد الأمريكيون والأوروبيون.
خلال الأسابيع الأخيرة جرى حوار مكثف بين طهران ونيودلهي بغية إيجاد وسيلة للالتفاف حول الحظر المفروض على النظام المالي الإيراني، خصوصًا أن الهند لا تتمتع بما تتمتع به الصين لجهة مرونة عملتها (اليوان) وقدرة اقتصادها الضخم على المناورة. وفي بدايات الشهر الجاري، أعلن الطرفان توصلهما إلى اتفاق يقضي بأن تدفع الهند 45 في المائة من قيمة فاتورتها النفطية بالروبية الهندية، على أن تودع هذه المبالغ في فروع مصرفين إيرانيين خاصين في مدينة كلكتا. أما الباقي فيسدد في فترة لاحقة، على أمل أن تتغير الظروف، لكن هناك شكوكًا تحوم حول نجاح الاتفاقية، مصدرها أن الهند تفرض ضرائب بنسبة 40 في المائة على الأموال الأجنبية المجمدة في مصارفها. وهو ما دعا بعض الإيرانيين إلى مقايضة النفط بالقمح أو الأرز الهندي.