آسيا تصنع نموذجها الخاص في المصالحة الوطنية
إذا كانت لأوروبا تجربتها الخاصة في المصالحة الوطنية ممثلة في التوافق الذي حدث ما بين أطراف الحرب الأهلية الدموية في أيرلندا الشمالية، وإذا كان للأفارقة نموذجهم الخاص الذي أدهش العالم، ووصف بالمعجزة، ممثلا فيما أنجز على يد المناضل الكبير نيلسون مانديلا وخصمه رئيس النظام العنصري فريدريك دوكليرك، الذي لا يمكن وصفه إلا بالرجل الحكيم كونه فهم ما لم يفهمه أسلافه من أن الهيمنة المطلقة للأقلية البيضاء غير ممكنة إلى الأبد، وأن من مصلحتهم قبول حكم الأغلبية السوداء، فإن تسارع الأحداث أخيرا في بورما تشي بأن الآسيويين في طريقهم إلى صنع نموذجهم الخاص أيضا.
فما لاقاه مانديلا على يد جلاديه البيض من تعذيب نفسي وجسدي في معتقله على مدى 30 عاما يشبه إلى حد بعيد ما لقيته زعيمة المعارضة البورمية المناضلة الجسورة أونج سان سو تشي في سنوات إذلالها وحبسها الإجباري الخمس عشرة. وما أقدم عليه زعيم بورما العسكري تين شين أخيرا، يشبه إلى حد ما، ما فعله ''دوكليرك''. صحيح إن بورما لم تعرف نظام التمييز العنصري وثقافة العنف التي سادت جنوب إفريقيا، إلا أن شعبها قاسى مرارة التسلط والديكتاتورية والقمع والإذلال على يد العسكر الذين أطاحوا بالحكم المدني الديمقراطي في عام 1962، قبل أن يؤسسوا مع مطلع التسعينيات لنمط جديد من الديكتاتورية العسكرية الفجة بقيادة زمرة من الجنرالات القساة. والإشارة هنا طبعا إلى ما عرف بـ ''مجلس الدولة للسلم والتنمية''، وهي السلطة التي قمعت احتجاجات الطلبة في عام 1998 بوحشية وقتلت ثلاثة آلاف منهم، قبل أن تلغي نتائج انتخابات عام 1990 التي فازت بها العصبة الوطنية للديمقراطية بقيادة سو تشي بأغلبية 60 في المائة، وتعتقل الأخيرة وتحكم عليها بالإقامة الإجبارية لمدة 21 عاما.
وهكذا فلئن جسد مانديلا حلم شعبه في بلد ديمقراطي يتمتع فيه الجميع بحقوق متساوية، فإن سو تشي مثلت أيقونة الديمقراطية والتحرر من فاشية العسكر.
ويعتقد المراقبون أن بورما التي كانت إلى ما قبل ثلاث سنوات، حالة ميؤسا منها، ونظاما لا أمل في استجابته لتطلعات شعبه أو رضوخه للضغوط الإقليمية والدولية بالانفتاح والإصلاح، صارت اليوم تخطو خطوات جادة نحو الديمقراطية والمصالحة الوطنية بدليل ما أقدمت عليه في كانون الثاني (يناير) الحالي من خطوات مشهودة.
فالحكومة الحالية الموصوفة بـ ''المدنية'' التي يسيطر عليها عسكريون سابقون بقيادة الجنرال تين شين الأقل تشددا وجمودا من سلفه الجنرال تان شوي الموصوف بأسوأ ديكتاتور في تاريخ آسيا، وربما العالم، أفرجت في تشرين الأول (أكتوبر) الماضي عن 6300 معتقل (بينهم 200 معتقل سياسي)، وأفرجت أخيرا عن 651 سجينا من النشطاء السياسيين، كان من بينهم زعماء انتفاضة الطلبة في عام 1988، ومؤيدون لثورة الكهنة البوذيين المعروفة بـ ''ثورة الزعفران'' في عام 2007، وبعض قادة حركات الأقليات المتمردة على السلطة المركزية منذ الاستقلال في عام 1948 (مثل أقليات شان، وكارين، وكاتشين، ومون)، ناهيك عن رئيس الوزراء الأسبق خون نيونت الذي كان قد أقيل وأعتقل في عام 2004 في صراع داخلي على السلطة.
وقالت الحكومة في تفسير خطوتها تلك إنها دليل على رغبتها في المصالحة الوطنية، واشتراك المعتقلين في العملية السياسية كافة. لكن خطوتها الأكثر إثارة كانت في تشرين الثاني (نوفمبر) 2010، حينما أفرجت عن السيدة سو تشي، وأعادت صفة الشرعية لحزبها، وأعلنت عن السماح لها بالعودة إلى الساحة السياسية، قبل أن يستقبلها الجنرال تين شين في مكتبه ويعلن أمام وسائل الإعلام أن الطريق ممهد لها للمشاركة في انتخابات فرعية في نيسان (أبريل) من العام الجاري. ومن خطوات الحكومة اللافتة للنظر قبولها وقف إطلاق النار مع ميليشيات الاتحاد الوطني لأقلية الـ ''كارين''، وتخفيفها القيود على وسائل الإعلام الحديث، وسماحها ببيع وتداول صور زعيمة المعارضة وشعارات حزبها.
ومن جانبها أعلنت سو تشي أنها تثق بالرئيس تين شين ولا تمانع من الانضمام إلى الحكومة في حالة فوزها، بل أصدرت بيانا رسميا يجسد نموذجا في كيفية تعاطي المعارضة الذكي مع مبادرات الدولة من أجل خلق واقع جديد يسوده الإخاء والسلام والأمن والتوافق بين مكونات الشعب. فهذه التي ضربت أروع الأمثلة في الصلابة والتضحية من أجل شعبها دون ضعف أو تخاذل أو تعلق بالمصالح الشخصية، وقاست من الحبس الانفرادي والإذلال والقمع والحرمان من أطفالها وأحبابها، بل فقدت زوجها وهي في الحبس الإجباري دون أن يسمح لها بالمشاركة في جنازته، لم يمنعها كل ما لحق بها من عذابات ومظالم وإهانات من التجاوب مع جلاديها خدمة لشيء أكبر وأبقى هو الوطن.
فبدلا من أن تكابر، وتتصرف بعنجهية وغطرسة وروح ثأرية، وتلوّح بورقة الجماهير والمظلومية، أو تلجأ إلى الأساليب الاستفزازية العنيفة كما يفعل بعض المعارضين العرب في بلدان ما يسمى بـ ''الربيع العربي'' (رغم أنهم لم يقاسوا نصف ما قاسته)، أعلنت في بيانها ''إن ما يوجهني هو مصلحة أمتي فقط، وبالتالي فأنا مستعدة للتعاون والعمل مع الحكومة و''جنرالات مجلس الدولة للسلم والتنمية'' من أجل حوار بناء، يهدف إلى المصالحة الوطنية وترسيخ الديمقراطية وفق جدول زمني. وأضافت قائلة: ''ولهذه الغاية فأنا ملتزمة بمواصلة السير في الحوار، وأدعو جميع المواطنين والأطراف السياسية إلى التحلي بالصبر والإيمان بأن مستقبلنا يكمن في الدفاع عن الاستقرار والسلام والديمقراطية، وفي إنهاء الصراعات العرقية التي أودت بحياة عشرات الآلاف ودفعت بمئات الآلاف إلى الهجرة إلى تايلاند المجاورة أو طلب اللجوء في أستراليا وكندا وأوروبا والولايات المتحدة''.
إن الخطوات التي أقدم عليها نظام رانجون، والردود الإيجابية عليها من المعارضة فتحت الباب أمام انتقال بورما من حال إلى حال. ولعل أفضل دليل على ذلك أن الاتحاد الأوروبي وبريطانيا وفرنسا سارعت إلى الإشادة بهذه التطورات ودعمها والإعراب عن سعادتها بحدوثها، فيما قالت واشنطون إنها ستعيد تبادل السفراء مع رانجون كخطوة أولى قبل رفع العقوبات الاقتصادية عنها، وتشجيع صندوق النقد الدولي على تقديم المساعدات لها تنفيذا لما أعلنته وزيرة الخارجية الأمريكية هيلاري كلينتون في زيارتها النادرة لبورما في كانون الأول (ديسمبر) الماضي حينما قالت: ''إن بلادي سترد على كل خطوة تتخذها الحكومة البورمية بخطوة مماثلة''. وكان هذا أيضا موقف نظيرها الفرنسي ألان جوبيه الذي حل في رانجون في 15 كانون الثاني (يناير) الحالي في زيارة هي الأولى لوزير خارجية فرنسي لهذا البلد. أما الأمم المتحدة فدعت على لسان أمينها العام بان كي مون المجتمع الدولي إلى توفير الظروف الملائمة لإنجاح عملية المصالحة الوطنية، وإلى مساعدة الشعب البورمي المنهك اقتصاديا.
وسواء أكانت خطوات عسكر بورما التفافا على تهديدات غربية برفع جرائمهم إلى محكمة الجنايات الدولية تمهيدا لإدانتهم بجرائم ضد الإنسانية، أو كانت طمعا في كسب ود المجتمع الدولي ومساعداته من أجل الخروج من مآزق بلادهم الاقتصادية، فإن ما أقدموا عليه يمثل بداية لصفحة جديدة في تاريخ هذا البلد تعيس الحظ، وأيضا بداية لمسيرة جديدة لزعيمة المعارضة التي تقترب من إكمال العقد السابع من عمرها الذي قضت جله في المنافي أو الأسر المنزلي الكئيب.