من غانا إلى ماليزيا

قبل حوالي ثلاثة أسابيع كتبت مقالا في ''الاقتصادية'' تحت عنوان ''تكريم الرواد'' تناولت فيه بشكل موجز الدور الذي اضطلع به الأستاذ عبد العزيز المنقور أثناء عمله في الملحقية الثقافية في الولايات المتحدة الأمريكية خلال الأعوام من 1381هـ إلى 1397هـ، وما تركه من أثر في حياة الآلاف من الطلبة السعوديين المبتعثين الذين عاصروا تلك الفترة. وقد كان الحفل الذي أقيم تكريما للأستاذ المنقور يوم الثلاثاء 16 صفر 1433هـ في فندق الإنتركونتننتال في الرياض فرصة اغتنمها عدد كبير من أولئك المبتعثين للتعبير عن امتنانهم ومشاعرهم نحو ذلك الرجل الذي كرّس قرابة عقدين من عمره لرعايتهم وشد أزرهم في ديار الغربة، والأخذ بيدهم إلى أن حققوا مبتغاهم وعادوا إلى وطنهم مزودين بأنواع شتى من العلوم النافعة.
من بين الملامح الجميلة التي يمكن تسجيلها لذلك الحفل، إلى جانب العدد الكبير للحضور والتنظيم الجيد، أنه شكّل فرصة قد لا تتكرر لاسترجاع ذكريات بين رفاق افترقت بهم الطرق منذ أكثر من أربعين عاما، ومن حسن الحظ أن ذلك اللقاء كشف عن أن البعض منهم لا يزال يحتفظ بذاكرة لم يجُر عليها الزمن بعد.
عندما نشرت ذلك المقال عن تكريم الرواد، لفت نظري أحد الزملاء إلى مقال كتبه الأستاذ محمد المسعودي في جريدة ''الوطن'' بتاريخ 23/1/1433هـ تحت عنوان '' في وداع سفير''. كان موضوع المقال هو السلوك الحضاري والتفاني في أداء الواجب الذي لمسه المبتعثون وغيرهم من السعوديين في ماليزيا من الأستاذ محمد رضا أبو الحمايل، السفير السابق لخادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز في ذلك البلد الصديق.
مما جاء في مقال الأستاذ المسعودي: ''الحديث عن سفراء المملكة في الخارج ذو شجون، وأتصور أن ديدن خادم الحرمين الشريفين في توجيه وإنارة السفراء عند تعيينهم وتنبيههم إلى دور السفراء في عكس وجه الصورة الحقيقية للوطن ودعم المواطن والحرص على مطالبه والدفاع عنه والتكفل باحتياجاته وفتح أبواب السفارات له، كان منعطفاً مهماً في عمل السفراء.
ومن هذا المنطلق، كنا الأسبوع الماضي في وداع أنموذج مضيء للسفير السعودي بخلقه ووطنيته عطاءً وسلوكاً، ذلك سفير خادم الحرمين الشريفين لدى ماليزيا محمد رضا أبو الحمايل المتحدث بثلاث لغاتٍ إنسانية لا يجيدها اليوم إلا القلة، فتنطلق ابتسامته لطفاً غامراً يأخذ القلوب والأخرى مواطنةً وإخلاصاً في عمل دؤوب بين العلاقات السعودية الماليزية وسياسة الباب (المفتوح) لكل احتياجات المواطن السعودي، وثالثة تؤكد لغة الحضور وروح المشاركة والتواضع التي لم نعتدها من لغة بعض مسؤولينا وسفرائنا... كانت يده أول من صافحت أول دفعة من مبتعثي برنامج خادم الحرمين الشريفين في مطار كوالالمبور الدولي عام 2007م، مستقبلاً لهم، واقفاً على احتياجاتهم، وحاضراً في مقدمة مناسباتهم ومناشطهم الثقافية والعلمية والاجتماعية''.
لم يكن كاتب المقال وحيدا في ما عبرّ عنه من مشاعر نحو السفير أبو الحمايل بل شاركه في تلك المشاعر عشرات من القراء من خلال مداخلاتهم التي سجلّها الموقع الإلكتروني للجريدة. من بين تلك المداخلات: ''لله ما أجمل الوفاء لكل مخلص يعمل ويعشق وطنه في وقت تعودنا فيه على المسؤول أن يعيش في برج بعيد لا يصله أحد ويتحدث بلغة فوقية غريبة، فهنيئاً لنا بمثل هذا السفير''. كما جاءت مداخلة أخرى لتقول: ''لم أر الرجل إلا والابتسامة تعلو محياه. كان عوناً للمواطن في شتى الأمور، وليس لنا في مدحه سوى أن أعماله تحكي فضائله. إن أردت أن تعرف مواطنته، فأجلس إلى أي واحد قابله أو احتاج إلى مساعدة أو مشورة. بارك الله لنا في رجالنا المخلصين''.
لقد استهواني موضوع المقال كما استهوى القراء الآخرين، فتذكرت موقفا مع السفير أبو الحمايل في صيف عام 1425هـ خلال فترة عمله في جمهورية غانا قبل انتقاله إلى ماليزيا. وعلى الرغم من أنني لم ألتق به قط حتى هذا اليوم، إلا أنني كنت شاهدا على ذلك الموقف. في ذلك الصيف تلقيت اتصالا من أحد زملاء الدراسة القدامى مُعبّرا عن قلقه من رحلة علمية كان ابنه يعتزم القيام بها من مقر دراسته في الولايات المتحدة الأمريكية إلى غانا. كان مصدر قلق الأب هو الصعوبة المتوقعة في التواصل مع ابنه للاطمئنان عليه فيما لو ذهب إلى هناك، ولم يُخفّف من قلقه أن تلك الرحلة كانت ضمن دراسة ميدانية تشرف عليها منظمة اليونيدو، إحدى منظمات الأمم المتحدة، بالتنسيق مع كل من الجامعة التي كان يدرس فيها ذلك الابن وجامعة غانا.
كانت نصيحتي لذلك الزميل أن يتصل بسفير خادم الحرمين الشريفين في غانا للاستئناس برأيه، وألا يستسلم للقلق كي لا تضيع على ابنه فرصة قد لا تعوض. ولعل ما دعاه للاطمئنان أن السفير لم يتأخر في الرد على مكالمته وإزالة أسباب القلق من باله، كما أنه لم يكتف بالترحيب بابنه فحسب بل طلب منه تفاصيل حجوزاته وموعد قدومه ليكون مندوب من السفارة في استقباله واصطحابه لمكان إقامته. وقد علمت فيما بعد أن السفير أبو الحمايل كان دائم السؤال عن أحوال مواطنه الزائر، كما دعاه وزملاءه من المشاركين في تلك الدراسة الميدانية إلى طعام العشاء في السفارة. تلك المعاملة الحسنة لا يزال زميلنا يحتفظ بها في ذاكرته، ويستعيدها كلما ارتدى القميص ذا الألوان الأفريقية الزاهية الذي تلقاه هدية من ابنه تذكارا لرحلة غانا الجميلة.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي