استحداث العقود.. نظرة اجتماعية
تعتبر العقود ردة فعل لتوثيق احتياج الناس في كامل شؤونهم العامة والخاصة، لذلك تظهر أشكال من العقود بين الحين والآخر على حسب احتياج الناس، وفي مقابل ذلك كلما كانت الحركة الاجتهادية الفقهية متحررة من القيود المذهبية والقياس القاصر ظهرت أنواع من العقود المبتكرة التي تغطي احتياج الناس وفق قواعد المصلحة والعدالة، ومع انعدام النظرة الفقهية المتجددة تظهر الاجتهادات الفقهية المتعسفة في تلبيس العقود المعاصرة عقودا فقهية قديمة فتجد عقد الاعتماد المستندي يكيف فقهيا عند بعض الفقهاء على أنه عقد ضمان ووكالة وكفالة بينما في حقيقته هو عقد جديد يشترك مع هذه العقود في بعض الإلزامات والآثار، إلا أنه لا يجوز قصر مجاله عليها فقط، ولو قلنا ذلك لكان عقد الإيجار بيعا لأن فيه بيع منافع ومع ذلك لم يقل أحد من العلماء إن أحكام عقد الاجارة تأخذ أحكام عقد البيع.
وبعد هذه المقدمة التوضيحية نقول للقارئ الكريم إن منشأ العقود في الأساس منشأ اجتماعي يتمثل في العناصر الاجتماعية التي تقوم عليها احتياجات البشر، وهي على النحو الآتي:
1- التكرار
إن تكرار الحاجات البشرية يعني معاودة شعور الفرد بالحاجة، وظهور الرغبة نفسها لديه في الحصول على تلك الحاجة مرة أخرى بعد أن كانت قد اختفت بسبب تحقق الإشباع اللازم لها في أول الأمر، ويحدث التكرار غالبا بعد فترات زمنية معينة تختلف في مدتها باختلاف الحاجة المطلوبة، فمن الحاجات ما يتكرر أكثر من مرة في اليوم كالأكل والشرب، ومنها ما يتكرر في دورات قصيرة كالطلب على الأدوات سريعة الاستهلاك مثل: الأدوات الكتابية أو الآلات الصناعية الصغيرة، لكن بصفة عامة فإن تكرار الطلب على حاجة معينة يتوقف على كل من: عمر السلعة وطبيعة الشيء المحتاج إليه.
2- التعدي
هو انتقال الرغبات والشعور بالحاجة عبر الأماكن والأزمان، وذلك إما بطلب سلعة معينة تكون خارج النطاق الجغرافي الذي يعيش فيه الفرد، وهو ما يمكن تسميته بالتعدي المكاني للحاجات، أو بانتقال هذا الشعور عبر الأزمان المختلفة والأجيال المتعاقبة بين البشر، وهذا يمكن تسميته التعدي الزمني للحاجات.
3- التزايد
هي تعني الإضافة ـ كما ونوعا ـ لحاجات جديدة تتطلب الإشباع لم تكن موجودة من قبل. والتزايد الكمي للحاجات يرفع إلى عوامل وأسباب عدة، منها:
- الزيادة السكانية
من الأمور البديهية أن تؤدي الزيادة في السكان إلى زيادة في الحاجات البشرية، وعلى أثرهــا تكثر الارتباطات التعاقدية بين الناس.
- اتساع رقعة الأسواق
وتلك نتيجة طبيعية للتقدم السريع في سبل المواصلات والتطور الهائل في وسائل الاتصال.
- السياسات الاقتصادية للدولة الصناعية
ويتحقق هذا السبب عند سعى الدولة الصناعية، خاصة الكبرى منها، إلى السيطرة على الأسواق لضمان تصريف منتجاتها، فتغمر الأسواق بهذه المنتجات، وتعمل على تنويع المعروض منها، وتزيد من حجم التسهيلات المتاحة لها، فتتوالد حاجات جديدة ينبني عليها عقود جديدة لبعض المستهلكين بما يعرض لهم من سلع جديدة بينما تزداد حدة رغبات البعض الآخر منهم بما هو معروض لهم من تسهيلات.
- التغير المستمر في نمط الاستهلاكي
وهو من العوامل المهمة للتزايد الكمي للحاجات، وذلك للتغير المستمر في النمط الاستهلاكي للأفراد لارتباطه بطبيعة الإنسان المتغيرة التي تتأثر إلى حد بعيد بالمظاهر الاجتماعية السائدة، فسرعان ما يتغير نمط استهلاك الفرد لمجرد الرغبة في محاكاة الآخرين، ويحاول الصناعيون ورجال الأعمال بمساندة أجهزة الدعاية والإعلان استغلال هذا الضعف الإنساني والإبقاء عليه، ما يساعد على تزايد الرغبات وتكاثر الحاجات البشرية لمنتجاتهم فتنشأ عنه تعاقدات جديدة.
- تعديل السلوك الشخصي
يحاول الكثير من الأفراد إدخال أنماط سلوكية جديدة في أسلوب معيشتهم لإشباع حاجاتهم الحالية بوسائل أكثر تطورا وأحدث تقدما عما كان يعتاده من قبل.
ولا شك أن المناخ الاجتماعي يمارس تأثيرات عدة، أهمها عندما تظهر أنماط سلوكية حديثة تتطلب حاجات بشرية جديدة لم تكن موجودة من قبل فتتغير مظاهر الحياة الاجتماعية كلياً وتنتقل العادات والأعراف إلى طور جديد أكثر تكلفة عن ذي قبل، فيعمل ذلك على زيادة احتياجات الناس من البضائع والخدمات، وهذا منشأ لعقود مبتكرة جديدة.
إن حاجات الناس تعتبر المحور الأساس، إذ يتركز الهدف الرئيس للسياسة التعاقدية عليها في تدبير شؤون الإنسان وتحقيق أكبر قدر له من الرفاهية، وذلك باعتباره إنسانا أولا، ثم باعتباره عنصرا فاعلا في المجتمع، ولكي يتمكن من القيام بواجبات الخلافة في الأرض وتنفيذ شرع الله فيها.
والحاجات البشرية تعتبر عاملا فاعلا في دفع عجلة الإنتاج إلى الأمام واستمرار تقدمه وتطوره، كما تعمل على دوام تنوع وسائله لما لها من صفات التعدد والتجدد والتزايد المستمر مدى الحياة.
وسنذكر في مقالات قادمة - بإذن الله - فكرة تطوير العقود والأسس الشرعية التي تبنى عليها ابتكار العقود وتطويرها بما يتواءم مع كل زمان ومكان.
نسأل الله التوفيق لنا ولكم والحمد الله على كشف النقم وإتمام النعم ظاهراً وباطناً.