لا تنال الراحة بالراحة
يعتقد البعض خطأ أن محاولة سلق الأمور أو عدم الاهتمام بأداء العمل بالوجه الصحيح يحقق النجاح المؤدي إلى الراحة النفسية، ويكون الخطأ أكبر وأثره أعظم إذا اعتقد البعض الآخر أن الراحة في الراحة.
إن المقصود بالراحة والحصول عليها ليس راحة الجسد، إنما راحة الروح والنفس وتعزيز الثقة بالذات والإحساس بتميز العطاء والحرص على بناء التاريخ الشخصي أو العام على أساس أن ما نعمله اليوم في حاضرنا هو ما سيذكره التاريخ عنا فإن خير فخير أو عكس ذلك.
لقد حمل عنوان المقالة المعنى الكامل للرسالة التي كنت في حوار حولها مع عديد ممن تعاملت معهم خلال رحلة من العمر، والرسالة هي محاولة لتصحيح الفهم الخاطئ لبعض الأشخاص، خصوصاً الشباب المقبلين على الحياة العملية أو حتى قبل ذلك، وكان الحديث دائماً يتركز حول أن ما تبذله من جهد خلال سنوات حياتك الأولى هو ما يحدد موقعك بين أقرانك في رحلة حياتك الثانية، بمعنى أن ما نحرص على تعلمه وعمقه وقدره يكون قاعدة أساسية لدعم مسيرة الحياة العملية.
لقد أكد عديد من الخبراء وعلماء النفس والحكماء أن الاهتمام بالغرس البشري السليم هو الأساس للبناء السليم ولعل في قول عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - في هذا الشأن ما يكوّن أهمية الحرص من الأساس، عندما قال لمن سأله عن حق الولد على والده ''أن ينتقي أمه ويحسن اسمه ويعلمه الكتاب'' ثم يتركه في معترك الحياة لأنه بهذه المقومات الثلاثة الأساسية يتقوّم حاله وإن جاء من يخالفها فهو ممن يؤكد القاعدة.
إن الحرص على البناء الشخصي والعلمي السليم هو ما يحقق الراحة النفسية السليمة، وكلما كان الأداء متميزا وخيره أشمل وأعظم بلغ الإنسان منا أعلى مراتب الراحة النفسية والصحية والجسدية والعقلية، وكلما ارتفع به المقام ارتفعت مراتب الراحة وتميز العطاء وتحققت الاستدامة لذلك العطاء.
لقد صدق شاعرنا العربي عندما قال:
لا تحسبن المجد تمراً أنت آكله
لن تبلغ المجد حتى تلعق الصبرا
وهذا التمثيل الشعري دليل واضح على صعوبة بلوغ المجد إلا بالجهد الكبير المتميز، وفي الوقت نفسه رسالة لمن يعتقد أنه يستطيع أن يبذل أقل الجهد للوصول إلى المجد، والمجد هنا هو كل مكان ترنو النفس لبلوغه سواء كان علمياً أو مادياً أو اجتماعياً، حتى علو المجد للآخرة يتطلب من الجهد والعمل الشيء الكثير، ما يعني أن كل طموح مشروع يتطلب جهدا عظيما مشروعا، مع أنه يقال حتى الطموح غير المشروع يحتاج إلى جهد كبير لتحقيقه.
إن الاعتقاد بأن أنصاف الأعمال وأنصاف الجهد تحقق الإنجاز اعتقاد خاطئ، وفي هذا الشأن استوقفتني كثيراً مقولة جمعت ذلك كله من خلال نصيحة لمن يعي العمق والمعنى الحقيقي لذلك، هذه المقولة تقول ''لا تصادق أنصاف الأصدقاء، ولا تقرأ لأنصاف الموهوبين، لا تعش نصف حياة، ولا تختر نصف حل، ولا تقف في منتصف الحقيقة، لا تحلم نصف حلم، ولا تتعلق بنصف أمل، إذا صمت.. فاصمت حتى النهاية، وإذا تكلمت فتكلم حتى النهاية، لا تصمت كي تتكلم، ولا تتكلم كي تصمت، إذا رضيت فعبر عن رضاك، لا تصطنع نصف رضا، وإذا رفضت فعبر عن رفضك، لأن نصف الرفض قبول.
النصف هو حياة لم تعشها، وهو كلمة لم تقلها، وهو ابتسامه أجلتها، وهو حب لم تصل إليه، وهو صداقة لم تعرفها .. النصف هو ما يجعلك غريباً عن أقرب الناس إليك، وهو ما يجعل أقرب الناس إليك غرباء عنك، النصف هو أن تصل وألا تصل، أن تعمل وألا تعمل، أن تغيب وأنت حاضر وأن تحضر وأنت غائب، النصف هو ألا تعرف من أنت، ومن تحب ليس نصفك الآخر، هو أنت في مكان آخر في الوقت نفسه!
حقيقة أن نصف شربة لن يروي ظمأك، ونصف وجبة لن يشبع جوعك، نصف طريق لن يوصلك إلى أي مكان، ونصف فكرة لن يعطي لك نتيجة، والنصف هو لحظة عجزك وأنت لست بعاجز لأنك لست نصف إنسان. أنت إنسان، وجدت كي تعيش الحياة وليس كي تعيش نصف الحياة.
إن المتأمل لكل أنصاف الأمور يجد أنها لا تقوده لتحقيق كامل العمل ولا توصله إلى نهاية الطريق ولا تحقق له الحياة الكريمة التي يأملها ولا تضمن له الاستقرار الذي ينشده، حتى أنها لا تحقق له ذاته أو أهله.
الحياة اليوم وفي خضم التطورات التقنية والتواصل العالمي والتغير في كثير من شؤون الحياة تتطلب منا جميعاً، خصوصاًَ الشباب، مزيدا من الجد والعمل الدؤوب حتى نحقق لمجتمعنا ووطننا وديننا ما يجعلنا جميعاً في مصاف الدول المتقدمة إنسانا ومكانا، وهذا هو الابتلاء الذي يسبق التمكين لمن أراد التقدم والعطاء والتميز. ولي عودة للحديث عن العلاقة بين الابتلاء قبل التمكين، وفقنا الله جميعاً للعمل من أجل وطن سعودي الانتماء، عربي اللسان، إسلامي المعتقد، وعالمي الطموح.