ما بين ربيع العالم المتحضر وربيعنا!
من أغرب المفارقات التي حملتها إلينا سنة 2011 قبل أن تلفظ أنفاسها الأخيرة، من بعد صراع سياسي طويل، وكوارث طبيعية مدمرة، وأشلاء ودماء وعنف في أماكن كثيرة حول العالم، قرر أن يرحل عن دنيانا في الشهر ذاته، وبفارق يوم واحد فقط، شخصيتان متناقضتان في كل شيء.
الأولى هي فاكلاف هافل السياسي والروائي والمسرحي التشيكي الذي قاد الثورة المخملية في بلاده في عام 1989، من خلال الحركة الديمقراطية الجامعة التي شكلها تحت اسم ''تجمع المنتدى المدني''، فحقق بذلك ما فشل فيه زميله ألكسندر دوبتشيك، الذي يذكره تاريخ أوروبا الشرقية كثاني زعيم دولة حاول في عام 1968 التمرد على سدنة الشيوعية في موسكو، والانعتاق من الستار الحديدي الذي فرضه الاتحاد السوفياتي على دول شرق أوروبا بُعيد الحرب الكونية الثانية، من بعد نظيره المجري إيمري ناجي، الذي قاد محاولة مماثلة فاشلة في عام 1956.
أما الشخصية الأخرى التي رحلت بالتزامن تقريبا فهي زعيم كوريا الشمالية كيم جونغ إيل صاحب قائمة الألقاب الطويلة التي لم يكن له في أي منها نصيب. فهذا الأخير الذي سُميّ شمس القرن الحادي والعشرين، والقائد العظيم، والرئيس المغوار، وغيرها من أسماء خلقها لنفسه وروجته بالنيابة عنه أجهزة إعلامه ضمن سياسة ترسيخ ''عبادة الشخصية''، أذاق شعبه المسكين صنوف الديكتاتورية، وفرض عليهم التخلف والبؤس والخوف، وأوصل ما لا يقل عن 40 في المائة منهم إلى حافة المجاعة، وحال بينهم وبين ما يتمتع به إخوتهم في الجنوب من مظاهر الانفتاح والرخاء والديمقراطية.
انتظر الكوريون الشماليون طويلا قدوم ربيع سياسي مشابه لربيع براغ الأول أو الثاني، فإذا بديكتاتورهم الثاني (من بعد الديكتاتور المؤسس كيم إيل سونغ) يموت فجأة تاركا السلطة - وفق ترتيبات مسبقة - لديكتاتور جديد غض يُدعى كيم جونغ أون''، لم يُـؤت من العلم والخبرة شيئا، ويحمل ملامح أبيه، بل اسمه الأول أيضا، ولكأنما القدر فرض على أجيال هذا الشعب ألا تعرف غير حكام شموليين تبدأ أسماؤهم بـ ''كيم''.
ما سبق يصلح كمقدمة للدخول في مقارنة بين ما يسمى ''الربيع العربي'' أو ربيع العالم الثالث بصفة عامة، وربيع الأمم المتقدمة على النحو الذي فجره شعب تشيكوسلوفاكيا السابقة بقيادة هافل.
لم يكن هافل ساعيا قط إلى السلطة أو متطلعا إليها. كانت اهتماماته محصورة في الكتابة والتأليف المسرحي، لكن هذه الاهتمامات لم تمنعه من التماهي مع تطلعات وآمال شعبه، فجاءت كتاباته ومسرحياته المبكرة صدى لتلك التطلعات وداعمة لها، الأمر الذي دفع هافل ثمنه سجنا وإهانة وتعذيبا وحرمانا من أبسط حقوقه الآدمية. وحينما لاحت إمكانية إحداث التغيير بمجرد ترنح الاتحاد السوفياتي وتجرؤ البولنديين على شق عصا الطاعة على موسكو، كانت البذرة التي زرعها هافل في نفوس الجماهير قد أينعت، ممهدة الطريق لإطلاق حركة شعبية حضارية ضد الطغيان والشمولية. فكانت الثورة التي استحقت بالفعل صفة ''المخملية'' لأنها لم تقترن بإسالة الدماء أو إطلاق الرصاص أو العنف أو التخريب أو الفوضى أو إقصاء الآخر أو بث الكراهية، وغير ذلك من الأمور التي حدثت في الجارة الرومانية مثلا.
وحينما دعا التشيكوسلوفاكيون ملهمهم هافل ليكون أول رئيس لهم في عهد الديمقراطية والتعددية والحريات المؤطرة بالدستور والقانون، لبى الرجل نداء الواجب في مرحلة بدت وقتها مفصلية في تاريخ بلاده ومستقبلها، لكنه اشترط أن يكون ''هافل الرئيس'' كما ''هافل الكاتب'' في حياته وطقوسه اليومية، أي من دون حاشية أو امتيازات أو بروتوكولات أو حياة الرفاهية والقصور إلا في الحدود الدنيا. وما سجل عنه في هذا السياق قوله: ''لا تقيدوني، واتركوني على سجيتي، لأن القيود ستفضي بي إلى الموت البطيء، مثلما يموت الطائر الممنوع من التحليق''. غير أن رحيل الرجل أخيرا لم يكن بسبب قيود منصبه كأول رئيس ديمقراطي لتشيكوسلفاكيا (1989 -1992 ) ثم كأول رئيس لجمهورية تشيكيا (1993 - 2003 )، بل كان بسبب الحرية الشخصية التي جعلته مدمنا على التدخين بشراهة، ومهملا لصحته إلى أن أصيب بمرض عضال، قيل إن من أسبابه أيضا عدم حصوله على الرعاية الطبية الكافية أثناء فترة سجنه وتعذيبه في العهد الشيوعي.
ويُذكر لهافل أنه حافظ على الصورة المخملية لثورة شعبه، دون أن تقوده شعبيته وما تحت يديه من سلطات إلى الغرور أو التعنت أو المكابرة أو إطلاق التهديدات. وتجلى ذلك بأوضح الصور حينما لاحت له رغبة من لدن شركاء الوطن من السلوفاكيين في الانفصال عن تشيكوسلوفاكيا وتكوين كيانهم المستقل الخاص. وقتها لم يتمسك مثلا بما يمنحه الدستور من حق المحافظة على وحدة أراضي البلاد، إنما ترك للسلوفاكيين حرية القرار دون أن يطارد رموزهم السياسية أو يسلط عليهم أجهزة المخابرات. وكان من نتائج ذلك انشطار تشيكوسلوفاكيا إلى كيانين في عام 1993 بأسلوب حضاري متمدن أي دون اعتقالات أو إراقة دماء أو دك المدن بالمدافع والدبابات والطائرات على نحو ما حدث خلال أحداث مشابهة في أماكن كثيرة من العالم الثالث.
بهذه السيرة العطرة وهذا العطاء المتميز خلد هافل اسمه، ليس في تاريخ بلاده فقط، إنما أيضا في تاريخ العالم والبشرية. لذا لم يكن غريبا أن تُقام له جنازة مهيبة بحضور كبار قادة العالم من الشرق والغرب.
طبعا مثل هذه الجنازة أعدت أيضا للرفيق كيم في بيونجيانج، والمضحك هنا أن جثمانه حـُمـل في عربة من نوع ''كاديلاك'' أي من صناعة الدولة التي دخل معها في صراعات ومماحكات طويلة حول ملفات شائكة بقصد ابتزازها والحصول منها على مساعدات يطيل بها عمر نظامه الستاليني. لكن كم زعيما شارك في جنازته، إذا ما استثنينا أصدقاءه الوحيدين من قادة بكين؟ بل من سيكتب عنه في كتب التاريخ دون أن يأتي على حماقاته ورعونته وجرائمه في حق شعبه وشعوب الدول المجاورة؟
لقد رحل هافل في وقت تموج فيه دول نامية في الشرق الأوسط بما اصطلح على تسميته بـ ''الربيع العربي''، وهي تسمية مستوحاة من ''ربيع براغ''. لكن شتـّان ما بين الربيعين في المقدمات والنتائج. فالأول كان ثمنه آلاف القتلى، وأنهار من الدماء، وخروقات لا تحصى في حقوق الإنسان كما حدث في ليبيا ويحدث الآن في سورية، وفوضى وتدمير وتخريب للحمة الوطنية ولكل مقومات الدولة المستقرة الآمنة كما حدث في البحرين (رغم كل الملاحظات المحقة على الأداء السلبي لبعض الأجهزة الرسمية)، وإقصاء للآخر المختلف، وعنجهية في التمسك بالرأي الواحد، كما في الحالتين المصرية واليمنية. بينما الربيع الثاني كان على نقيض الأول تماما، سندا ومتنا. الأمر الآخر أن الحالة التشيكوسلوفاكية المجسدة لحالة الدول المتقدمة أفضت سريعا إلى بروز تيارات سياسية مستنيرة متماسكة ذات برامج واضحة، فيما أفضت الحالة العربية إلى بروز جماعات إقصائية ذات فكر متشدد أو تجربة سياسية متواضعة، أو برامج غير واضحة، وهو ما مكـّن جماعات سياسية قديمة من اختطاف ثمار ''الربيع'' بسهولة وتنصيب نفسها بديلا للأنظمة الساقطة.