التأمين بين التعاوني والتجاري

منذ سنوات وأنا أتابع الرأي الفقهي الذي ينادي به عضو هيئة كبار العلماء الشيخ عبد الله بن منيع بجواز التأمين بشكليه التعاوني والتجاري. وكانت بداية اطلاعي على ذلك الرأي من خلال تقرير نشرته ''الاقتصادية'' في 7/3/2006 عن محاضرة ألقاها الشيخ ابن منيع آنذاك، أي قبل نحو ست سنوات. وقد لفت نظري في الآونة الأخيرة ما نشرته جريدة ''الوطن'' في 19/12/2011 حول الموضوع ذاته تحت عنوان ''المنيع لرئيس قسم الفقه في الجامعة الإسلامية: تريد أن تضيق على المسلمين؟''.
إذ تضمن تقرير ''الوطن'' بعض ما دار من حوار في المحاضرة التي ألقاها الشيخ ابن منيع قبل نحو عشرة أيام في رحاب الجامعة الإسلامية في المدينة المنورة عن ''التأمين بين الحظر والإباحة''. وقد جاء في سياق ذلك التقرير على لسان المحاضر ''أن محل العقد في التأمين بقسميه – التعاوني والتجاري- يخلو من القمار والجهالة والغرر والغبن، وهي مجرد ملصقات يضعها المخالفون في تنور التأمين لمنعه وصد الناس عنه. مضيفا أنه ضمان أمن وأمان وسلامة من ضياع الأموال وليس فيه غارم وغانم، وليست معاوضة نقود بنقود كما يراه بعضهم، وإنما كلا طرفي العقد غانم في حال السلامة وغارم للخسارة، والمؤمن غانم لسلامة ماله وطمأنينة نفسه''.
إن ذلك الرأي ليس طرحا جديدا من الشيخ ابن منيع فقد نادى به منذ سنوات عدة ويعد نقلة نوعية في فهم نشاط التأمين والتعامل معه من منظور شرعي واضح دون تكلف. إذ كان هذا النشاط إلى عهد قريب محرماً بجميع أشكاله وألوانه في العقود التي تبرمها الدولة عدا حالات محددة بعينها مستثناة كطائرات الخطوط السعودية، وسيارات بعثاتنا الدبلوماسية في الدول التي يُطبق فيها التأمين إلزاماً. ولم يقتصر ذلك المنع يومئذ على عقود الدولة فحسب، بل امتد ليشمل شركات التأمين ذاتها، حيث لم يُسمح بتأسيسها فضلاً عن الترخيص لها بالعمل. وقد أدى ذلك القيد إلى تحميل عقود المشروعات العامة بتكاليف إضافية كان يمكن تلافيها لو وُفرت لها التغطيات التأمينية المعتادة في تلك الأعمال، والقول نفسه ينسحب على عقود التشغيل.
وظل المبدأ العام في المملكة لسنوات طويلة عدم جواز إبرام عقود تأمين تكون الدولة طرفاً فيها. على أنه سُمح في تلك الأثناء لبعض الشركات الأجنبية تقديم الخدمة في السوق بشكل غير رسمي لمؤسسات القطاع الخاص عبر مكاتب أو ممثلين. وأسفرت تلك الترتيبات عن تسرب أموال كثيرة دونما أي مردود مجدٍ للاقتصاد الوطني سواء في بناء كيانات متخصصة في مجال التأمين أو تأهيل كوادر سعودية، إضافة إلى ضياع حقوق أعداد لا بأس بها من المُؤمن عليهم. لكن على الرغم من كل ذلك، ازداد الطلب على خدمات التأمين بمعدلات عالية ما دعا الدولة إلى معالجة الخلل في هذا القطاع ولو بشكل جزئي فأنشأت شركة ''التعاونية للتأمين'' في عام 1986 شركة مساهمة لمزاولة أعمال التأمين التعاوني للتمييز بين طبيعة عملها وبين طبيعة عقود التأمين التجاري التي اعتاد الناس التعامل بها. وقد تبين فيما بعد أن كليهما يتفقان في الخصائص والنتائج والأهداف.
ونتيجة لمعدلات النمو الكبيرة في الطلب على خدمات التأمين، رأت الحكومة الحاجة إلى تنظيم تلك السوق، إذ صدر نظام مراقبة شركات التأمين التعاوني في عام 2003 الذي أُسندت فيه إلى مؤسسة النقد العربي السعودي مسؤولية دراسة طلبات تأسيس شركات التأمين وإعادة التأمين قبل إحالتها إلى وزارة التجارة والصناعة. كما أسند النظام للمؤسسة مسؤولية الإشراف والرقابة على أعمال هذا القطاع ومنحها صلاحيات واسعة. وقد أتيحت لي، أثناء تشرفي بعضوية مجلس الشورى في دورته الثالثة، فرصة المشاركة مع زملائي الأعضاء في دراسة ومناقشة مشروع ذلك النظام قبل إقراره.
تلك الدراسة لمشروع النظام ساعدتني على فهم ما ذهب إليه الشيخ عبد الله بن منيع من رأي بجواز التأمين بنوعيه التعاوني والتجاري. وقد يستحسن مجلس الشورى ذلك الرأي، وأن يرفع قيد التأمين التعاوني من الأنظمة المعنية، وأن يترك قرار اختيار نوعية التأمين للطرفين المتعاقدين. إذ إن تلك الخطوة فيها تيسير على الناس، كما أنها قد تشكل عامل جذب لاستثمارات الشركات العالمية عابرة القارات التي تتخوف عادة من التعاقد بشروط ليست مألوفة لها دون تحميل الطرف الآخر مبالغ إضافية تحوطا لأية تفسيرات قانونية قد تضر بمصالحها.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي