نظرات في الميزانية والموازنة
عندنا كمحاسبين الميزانية غير الموازنة، اختلاف لفظي له معنى مهم لدينا. الميزانية تقدم بيانات مالية فعلية (حدثت وانتهت) عن سنة ماضية، بينما الموازنة تعني أرقاما تقديرية عن سنة ستأتي لا نعلم ما سيحدث فيها، الله يعلمها، ولكننا نقدر لكل شيء قدره. في هذا التحليل سنأخذ رحلة داخل نتائج ميزانية عام 2011م التي بالكاد تلفظ أنفاسها الأخيرة، ورحلة أخرى في عالم موازنة 2012م لعلنا نستبشر فيها خيرا.
أولا: ميزانية 2011م، نعرف أن التقديرات في بداية عام 2011م كانت غير متفائلة بما يكفي بخصوص أسعار النفط، والحقيقة أن سبب ذلك التحفظ المبالغ فيه ليس معروفا بالتحديد، لكن لعلها قاعدة عامة لدينا نحن المحاسبين (الحيطة والحذر) وخاصة إذا تعلق الأمر بالتقديرات، لكن لماذا يغضب المحللون من التقديرات المتحفظة كثيرا، بمعنى آخر ما الذي ضرنا أننا كنا نتوقع الإيرادات عند 540 مليارا وجاءت الحقيقة رائعة بـ 1110 مليارا. للإجابة فإن المشكلة تأتي مع تقدير المصروفات. عندما تتوقع إيرادات عند 540 مليارا فإنك بالطبع تحاول السيطرة على مصروفاتك وتجبر الوزراء على اختيار المشاريع وفقا لتقديرات متحفظة فتقوم كل وزارة باختيار الأهم فالمهم (وهذا تقدير شخصي في الغالب) وكل وزارة تغلب جانبا على جانب، وبالطبع تتحفظ الوزارات في تحديد وطلب الاحتياج من الوظائف، ثم خلال العام تأتي الإيرادات من كل حدب وصوب أعلى بكثير من المقدر في بداية العام فترتفع المصروفات عما تحتاج إليه الوزارات وتوجيه هذه الزيادات ليس له قانون. ومع ثقتنا بأن الزيادة في المصروفات تم توجيهها نحو أفضل المشروعات خدمة للمواطن لكن يظل هناك احتمال فقدان وزارة أو جهة أو حتى دائرة أو فرد فرصة إنجاز أمر ما لو أنه منح فرصة تقدير أفضل.
بقي القول إنه تم صرف مبلغ ضخم في عام 2011م وهو 804 مليارات، رقم لم نكن نحلم – مجرد حلم – أن نصل إليه فضلا عن صرفه فعلا، وبالمقابل فإننا لا نكاد نشعر بالمشاريع التي أنفقت فيها كل هذه المصروفات. لقد أشارت الأرقام إلى أن 93 في المائة من الإيرادات (1110 مليارات) جاءت من النفط أي مبلغ (1032 مليارا) بينما المصادر الأخرى لم تتجاوز 7 في المائة (78 مليارا).
هناك أخبار سارة جدا مع نهاية الميزانية لعام 2011م وهو أن الفائض بلغ 306 مليارات، وهو - بحمد الله - رقم ضخم جدا يعادل ميزانيتنا بجميع مشاريعها ومصروفات وزاراتها قبل عشر سنوات، والسؤال الآن: أين سيذهب هذا الفائض الضخم ومن الذي سيحصل عليه، الإجابة جاءت من قبل خادم الحرمين الشريفين – رعاه الله – حيث أمر بتحويل أكثر من 80 في المائة من هذا الفائض (250 مليارا) لتمويل مشروع الإسكان لبناء 500 ألف وحدة سكنية. هنا أذكّر المسؤولين عن هذا المشروع بمقولة خادم الحرمين الشريفين (لا عذر لكم بعد اليوم .. أنجزوا مشاريعنا). الإسكان مطلب شعبي كبير، ومشروع أشبه بالحلم، وكل شيء متوافر، فأين الوحدات؟ الوقت يمضي، والطفرة فرصة.
ثانيا الموازنة لعام 2012م: تتحفظ وزارة المالية في التقديرات كعادتها، وهي تتوقع الإيرادات بمبلغ 702 مليار، في الوقت الذي بلغت الفعلية لعام 2011 مبلغ 1110 مليارات، أي تتوقع انخفاض في الإيرادات بأكثر من 400 مليار، لكن حالة الأسواق المالية والنفطية في العالم تقول غير ذلك، فالمضاربون اليوم يشترون حقوق شراء النفط عند مستوى 180 دولارا، ومعنى ذلك أنهم يتوقعون أن أسعار البترول ستفوق 200 دولار، وإلا ليس هناك معنى للمجازفة بشراء حقوق الاختيار. ولكن العزاء أن هذا التحفظ في تقدير الإيرادات لم يكن له (أو هكذا علينا أن نتوقع) تأثير في قرارات المصروفات فلم يزل هناك فائض متوقع بمقدار 12 مليارا، وكلي أمل أن ذلك يعني أن كل وزارة قد أخذت كل ما طلبت بلا مجادلات كثيرة، وهذا سيضع الوزراء في مجال المراقبة للعام القادم فالأعذار ستتلاشى، فمن الواجب عليهم أنهم قد اتخذوا كل القرارات اللازمة لإنجاز الأعمال ورفع مستوى التنفيذ، إلا إذا كان هناك منهم يخطط لرد الفائض.
فمثلا في موازنة عام 2012 تضع الدولة الإنسان في أعلى سلم الأوليات وهي تضع مصروفات التعليم والتدريب عند حد قياسي جديد بمبلغ 168 مليارا، وإذا كان التعليم واضحا ومصروفاته ومخرجاته واضحة فإن التدريب ليس كذلك. اليوم ومع تطور وسائل التقنية والمعلومات وأساليب الإدارة والتفكير فإن الموظف السعودي يحتاج إلى تدريب مكثف ومتواصل. أعرف مؤسسات حكومية مهمة جدا لا يجد الموظف فيها فرصة للتدريب أبدا إلا بشق الأنفس، أما آن لمثل وزيرهم أن يخشع قلبه لمبلغ 168 مليارا وضعتها الدولة للتدريب. هل تصدق أن هناك موظفين في مراتب عالية من الدولة لا يكادون يحسنون استخدام الحاسب الآلي، هل تصدق أن كثيرا من مؤسساتنا وموظفينا لا يزالون يرون الحاسب الآلي مجرد آلة ناسخة.