افتح الهدية

يحكى في الأساطير الصينية أن وجيها خرج إلى الغابة يصطاد وخرج معه خدم ليعاونوه، وبعد قليل وجد أمامه أرنبا جميلا، فصوب نحوه بندقيته وهمّ باصطياده، ولكنه وقبل أن يطلق وجد أمامه على بعد أمتار غزالا جميلا ملونا، فترك الأرنب وصوب بندقيته نحو الغزال بسرعة، وقبل أن يطلق رأى في الأفق البعيد ثعلبا يعدو فترك الغزال وجرى بسرعة نحو الثعلب وصوب نحوه وكاد أن يطلق، حتى سمع صوتا فوق رأسه فإذا هو نسر كبير ذو منقار عجيب فصوب بندقيته نحوه بسرعة وأطلق ولكنه لم يستطع أن يصيبه وهرب النسر في الفضاء، عاد الوجيه ببصره فورا إلى الثعلب فلم يجده، ثم التفت ناحية الغزال فوجده يعدو بعيدا فحزن كثيرا وقال: "ليس لي إذن إلا الأرنب"، فالتفت بين يديه فلم يجد الأرنب أيضا. فما كان من الوجيه إلا أن جمع معاونيه وحراسه وأخذ يصرخ فيهم، هربتم جميع الحيوانات بسببكم، يا لكم من أغبياء!
في هذه القصة البسيطة المعبرة يمثل الأرنب المعاني الثمينة التي بين أيدينا والتي قد لا تكلفنا كثيرا ولكنا نغفل عنها، مثل الأسرة والصحة وكافة أهدافنا المهمة. ويمثل الغزال الكماليات التي لا نحتاج إليها ولكنها تضغط علينا بشدة تستفزنا إليها فتضيع أوقاتنا وأموالنا وتصرفنا عن أهدافنا المهمة مثل السيارات الفارهة والرحلات المسرفة ومتع الحياة التي ليس من ورائها طائل. ويمثل الثعلب عنصر التحدي والإثارة التي نجري خلفها كثيرا دون وعي ودون تركيز. ويمثل النسر في هذه القصة السمعة والشهرة التي يسعى إليها الكثير فتنسيهم أهدافهم الحقيقية فيصبحون عبيد الأضواء يجرون خلف ما يجذب الناس إليهم بغض النظر عن مبادئهم وأهدافهم الحقيقية. الإنسان إذن في اختبار مستمر للمفاضلة بين أشياء مهمة وقيمة لكنها قد تبدو له بسيطة وقريبة فلا يكترث بها وبين أشياء أخرى قليلة الأهمية ولكنها تستفزه إليها لأنها جميلة ممتعة أو مثيرة مشوقة أو تجلب إليه الأضواء والسمعة ولا بد له في كل يوم من الاختيار.
كثيرا ما نتطلع في حياتنا للبعيد وننسى القريب، نبحث عن الفرص البعيدة وننسى الجواهر التي بين أيدينا. تجد بعضنا يحسن التعامل مع الجميع إلا مع أهل بيته، ابتسامته لا تفارق وجهه ووقته مبذول بسخاء للجميع إلا مع والديه. تجدنا ننتقد كل شيء، شرطي المرور، موظف الخطوط، مذيع التلفزيون، لاعب الكرة، إمام المسجد، ولكن لو فتشت عن عملنا نحن ومهامنا نحن ومسؤولياتنا نحن لوجدنا أنها آخر ما نلتفت إليه، لم نكلف أنفسنا إتقان صنعتنا والتركيز على دائرة تأثيرنا.
كثيرا ما تستهلك طاقاتنا كلها في التفكير في الغد والأمس وننسى أن نعيش اليوم، كثيرا ما نسرح في خيال واسع عن الإجازة المقبلة والعطلة البعيدة والرحلة البحرية في الصيف ونغفل عن الحديقة الجميلة التي خارج بيتنا أو زقزقة العصفور الذي على شبّاكنا، أو طفلنا الصغير الذي يحاول منذ زمن ببراءة متناهية أن يجتذب انتباهنا بضحكاته وأحيانا مشاغباته. يقول دبليو فيزر: "كثيرون يفوتهم نصيبهم من السعادة ليس لأنهم لم يجدوها بل لأنهم لم يتوقفوا ليستمتعوا بها".
قبل أن نبحث عن السعادة في الخارج لنفتش عنها في داخلنا، قبل أن نسرح بعيدا في مستقبلنا لنستمتع بيومنا، قبل أن ننظر إلى ما عند الآخرين لنشكر الله ونحافظ على ما أعطانا، تماما مثل الهدية لا يستمتع بها إلا من يفتحها، فلنفتح هدايا الله إلينا اليوم ولننعم بها ونشكره عليها ونكون ممن قال فيهم "وقليل من عبادي الشكور".

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي