من يشترون الشهادات!
حفلت الصحف المحلية في الآونة الأخيرة بعدد من التقارير عن ملف ''الشهادات المزورة''، كان من بينها الخبر الذي تصدّر الصفحة الأولى لجريدة ''عكاظ'' بتاريخ 11 ذو القعدة 1432هـ عن تكليف شركة أوروبية بتدقيق 100 ألف شهادة جامعية لمبتعثين حصلوا على درجات علمية من خارج المملكة، وهو ما اعتبرته الجريدة ''صفعة للمزورين''. ثم جاء التقرير الذي نشرته ''الاقتصادية'' في العشرين من نفس الشهر تحت عنوان (''الشورى'' يفتح ملفات ''الشهادات المزورة'' ويعتبرها ظاهرة خطيرة).
قبل نشر هذين التقريرين سعدت بلقاء أستاذنا عبد العزيز المنقور، الملحق الثقافي الأسبق في الولايات المتحدة الأمريكية، في أمسية جمعته ببعض ''تلاميذه'' الذين عاصروه أثناء فترة عمله في ''الملحقية'' التي امتدت لستة عشر عاما تقريبا (من 1381هـ حتى 1397هـ). كانت فرصة لاسترجاع شريط الذكريات مع رجل في قامة المنقور الذي لا يزال يتمتع بذاكرة جيدة رغم تخطيه الثمانين من عمره المديد، بإذن الله. من المواقف التي لا يزال يختزنها أبو محمد في ذاكرته زيارته مع أحد أصدقائه للملك خالد بن عبد العزيز ـــ رحمه الله ـــ في لندن للسلام عليه، إذ فوجئ عندما بادره الملك قائلا: ''يا منقور، صحيح أن هناك من يشترون الشهادات؟''. الدلالة أو الشاهد في ذلك الموقف الذي مضى عليه حوالي أربعين عاما هو أن التلاعب في الشهادات الأكاديمية ليس سلوكا جديدا في مجتمعنا كما قد يتبادر لأذهان البعض.
لكن يبدو أن العبث في الشهادات قد اتسعت دائرته في السنوات الأخيرة مع زيادة عدد الخريجين وبالذات في مراحل الدراسات العليا ومحدودية الوظائف المرموقة المتاحة أمام تلك الأعداد. كما أن انتشار الإعلانات من قبل كليات ومعاهد مشبوهة عبر شبكة الإنترنت ساعد في الإقبال عليها من الباحثين عن المظاهر أو ''البرستيج'' الزائف دون اعتبار للأمانة العلمية أو حقوق المجتمع، ناهيك عن الفساد المالي والإداري الذي يؤدي إليه ذلك السلوك المنحرف. ذلك أن مزور الشهادة مهما كانت درجتها الأكاديمية هو ليس إلا مغتصب لأموال ومنافع من حق آخرين.
لعل ذلك الانتشار الملحوظ في الشهادات الوهمية، رغم الجهود المبذولة من وزارة التعليم العالي، ما دعا مجلس الشورى في جلسته المنعقدة في 19/11/1432هـ (كما ورد في تقرير ''الاقتصادية'' المشار إليه آنفا) إلى اتخاذ قرار بتكليف لجنة الشؤون التعليمية والبحث العلمي دراسة مشروع مقترح لنظام حماية من تلك الشهادات. إذ رأى المجلس أن ''تغلغل حملة مثل تلك الشهادات سواء من المواطنين أو من المقيمين في مفاصل أجهزة الدولة ومؤسسات وشركات القطاع الخاص ظاهرة خطيرة''. ومن المؤمل أن يتضمن ذلك النظام عند صدوره عقوبات رادعة للحد من التلاعب في الشهادات العلمية.
بالطبع هناك آليات موجودة منذ سنوات تطبقها وزارة التعليم العالي لمصادقة ومعادلة شهادات الخريجين بالتنسيق مع الملحقيات الثقافية في الخارج. لكن مع القفزة الكبيرة في أعداد المبتعثين بات لزاما زيادة الإمكانات البشرية والتقنية المسخرة لتلك المهمة تقليصا لفترات الانتظار الحالية وحماية لحقوق كل الأطراف بما فيها صاحب الشهادة. وفي ذلك الإطار، وتكملة للجهود الحالية، قد تستحسن الوزارة تأسيس موقع إلكتروني يحتضن سجلا وطنيا للشهادات المعتمدة بكل تفاصيلها ويكون متاحا أمام الجمهور، على غرار البرنامج الذي أطلقته وزارة العدل قبل شهور قليلة للتحقق من صلاحيات الوكالات الشرعية وكل ما يخصها من بيانات، إذ حقق ذلك البرنامج الكثير من الفوائد.
كما قد ترى الوزارة إسناد إدارة ذلك السجل إلى شركة متخصصة بالتعاون مع بعض الجامعات السعودية، تحت إشرافها. حيث ستشكل تلك الخطوة، متى تحققت، بإذن الله، مع النظام المتوقع صدوره من مجلس الشورى آليات فاعلة لكشف ومكافحة الكثير من الممارسات غير السوية من بعض حملة الشهادات العلمية.