لماذا ينتشر الهنود في العالم؟ (2 من 2)
وفيما يتعلق بهنود دول شرق إفريقيا مثل أوغندا وكينيا وزامبيا وتانزانيا (تانجانيقا+زنجبار)، فقد بدأت هجرة الهنود إليها ابتداء من عام 1895، حينما هجّرتْ بريطانيا نحو 37 ألفا، معظمهم من ولاية البنجاب المقسمة حاليا ما بين الهند وباكستان، إلى تلك المناطق من أجل بناء خط حديدي يربط مُمباسا التانزانية بـكمبالا الأوغندية. ولما كانت عملية البناء تلك شاقة ومحاطة بظروف طوبوغرافية ومناخية صعبة، فقد لقي آلاف الهنود المهجرين حتفهم أثناء العمل. أما من بقي منهم على قيد الحياة فقد استقر في تلك الديار وتناسل، لكن دون أن يحصل على حقوق سياسية أو يـُسمح له بشغل الوظائف الحكومية، بل اتهم في أحايين كثيرة بتأجيج الأوضاع السياسية طلبا لديمقراطية مشابهة لتلك المعمول بها في وطنه الأصلي. وهكذا انتهى هنود شرق إفريقيا كباعة على الأرصفة أو كمالكين لمتاجر وضيعة، مع استثناءات جد قليلة. وباستقلال أوغندا في الستينيات، رفضت السلطات منحهم جنسية البلاد أو هويتها؛ مما دفع الكثيرين منهم إلى الاستفادة من وثائقهم البريطانية للهجرة إلى بريطانيا. أما من فضّل البقاء فقد كان ضحية للوثة الجنرال ''عيدي أمين'' الذي قفز إلى السلطة في عام 1972، وبدأ عهده بتأميم ممتلكات كل الآسيويين وطردهم من أوغندا دون رحمة.
ولا تختلف حالة المهاجرين الهنود في كينيا وتنزانيا وزامبيا عنها في أوغندا؛ إذ مورس ضدهم شتى أنواع التمييز بمجرد استقلال هذه البلاد، وهو ما أجبرهم على الهجرة إلى بريطانيا ليلتحقوا بمواطنيهم من أفراد الهجرات الأولى التي بدأت في الخمسينيات والستينيات من القرن العشرين.
ومما لا شك فيه أن أفضل الظروف التي يعيش فيها هنود المهجر، هي تلك التي توفرها لهم دولتا أمريكا الشمالية (الولايات المتحدة وكندا) بدليل أنهما تجذبان ما بين 80 - 90 في المائة من الهنود المؤهلين تقنيا ممن يعيشون في الخارج. وعلى الرغم من بروز بعض النزعات العنصرية ضدهم في السنوات الأخيرة بسبب جرائم وأحداث لم يكن لهم فيها يد، فإن المشهد العام يوحي بأنهم - منذ انتقالهم إلى هاتين الدولتين - يتمتعون بكامل حقوقهم، وينعمون بحياة مستقرة ودخول مجزية، ويشغلون مراكز مرموقة في حقول الطب والمحاماة والهندسة وتقنية المعلومات والأبحاث الفضائية والتدريس الجامعي. ويشير تقرير هندي صدر في عام 1994 إلى أن 20 في المائة من خريجي معاهد التقنية الإلكترونية في بومباي مثلا استطاعوا أن يجدوا لهم وظائف في السوقين الأمريكية والكندية، وأنهم استطاعوا أن يراكموا ثروات خاصة بمعدل نصف مليون دولار سنويا. ومما أورده التقرير أيضا أن جُل هؤلاء لا يفكر حاليا في العودة إلى وطنه بسبب ظروفه المعيشية والوظيفية الجيدة، وإن لم ينقطع عن إرسال تحويلات مالية منتظمة إلى ذويه في الوطن الأم.
وأخيرا، لا بد من الحديث عن هنود المهجر العاملين في دول الخليج العربية، والذين لا يكف البعض عن تناولهم بمناسبة ومن دون مناسبة، غامزين من قناة تحويلاتهم المالية الضخمة بالعملة الصعبة إلى ذويهم في الهند (علما بأن جُل هذه التحويلات تعود مرة أخرى إلى الخليج في صورة مدفوعات الهند لفواتير نفطها المستورد من المنطقة، ناهيك عن أن هذه التحويلات لا تمثل في أفضل الأحوال سوى أقل من 15 في المائة من إجمالي تحويلات الهنود في العالم إلى وطنهم) أو من قناة منافستهم للمواطنين في الاستحواذ على فرص العمل المحدودة والأنشطة التجارية الصغيرة، وبالتالي تسببهم في ارتفاع معدل البطالة في صفوف الشباب، ناهيك عن الغمز واللمز من قناة تهديدهم للهوية والثقافة العربية.
تعود هجرات الهنود الأولى إلى منطقة الخليج إلى حقبة ما قبل عقد الستينات، يوم أن كانت المنطقة تابعة إداريا لحكومة الهند البريطانية في بومباي. وقتها، ورغم استعانة الجهاز المدني الاستعماري بالكثيرين من الهنود من ذوي الياقات البيضاء للعمل في إداراته الرسمية أو شركاته النفطية، ورغم استعانة الكثيرين من أبناء الخليج الموسرين بالهنود كخدم وموظفين أو مساعدين على ظهر سفن الصيد، فإن أعدادهم لم تزد على 150 ألفا، شاملا أولئك العاملين في القواعد العسكرية البريطانية في عدن والعراق، وذلك طبقا لدراسة فريدة ونادرة من إعداد الباحثين ''بريكس'' و''سينكلير''، نشرتها منظمة العمل الدولية في عام 1980 تحت عنوان ''الهجرات العالمية والتطور في المنطقة العربية''. غير أن هذا العدد الضئيل شهد ارتفاعا دراماتيكا مع الطفرة النفطية الأولى في منتصف السبعينيات، قبل أن تتبعه ارتفاعات أخرى متتالية. فمن 300 ألف نسمة في عام 1973 إلى 2.15 مليون نسمة في أواخر عام 1993 فإلى 3.5 مليون نسمة في عام 2000 وصولا إلى أكثر من خمسة ملايين نسمة في الوقت الراهن، لكن مع تغير واضح في نوعية العمالة المهاجرة، بمعنى أن من جاؤوا في البدايات كانوا مجرد عمالة منزلية أو باعة أو سائقين أو حلاقين أو خياطين، فيما اشتملت الموجات التالية على عمالة ماهرة في حقول التمريض والهندسة والطب والكهرباء والمحاسبة وتكنولوجيا المعلومات.
والمعروف أن الحكومة الهندية شجعت مواطنيها على الذهاب إلى دول الخليج لأسباب كثيرة، منها تعزيز روابطها بهذه الدول عبر تلبية احتياجاتها من العمالة لأغراض المشاريع التنموية، وحاجتها إلى تحويلات هؤلاء المالية من أجل رفد خزينتها من العملة الصعبة للوفاء بقيمة وارداتها من النفط مرتفع السعر، وتخفيف الضغط على بنيتها التحتية الهشة، ناهيك عن علمها المسبق بحتمية عودة المغادرين يوما ما إلى وطنهم لاستثمار مدخراتهم في شراء المساكن الخاصة وتنمية قراهم ومزارعهم أو في تأسيس أعمالهم الخاصة؛ وذلك بسبب سياسات البلدان الخليجية المضيفة والتي تمنعهم من الحصول على الإقامة الدائمة على أراضيها أو حصولهم على الجنسية، أي خلافا لما يحدث في دول أمريكا الشمالية وأوروبا.
وما يهمنا في الختام هو التركيز على أن هنود المهجر، في مختلف الظروف والأوضاع والأحداث، كانوا ملتحمين مع وطنهم الأم في السراء والضراء، فلم يسجل مثلا أن أحدهم باع نفسه للأجنبي، أو تجنى بالباطل على بلده أو لفق الاتهامات والأكاذيب ضده، أو سخّر جهده لتهديد وحدته وسيادته. ومثل هذا الكلام نهديه إلى البعض ممن ينسى أفضال وطنه عليه، ويتجاهل ما تم استثماره فيه منذ نعومة أظفاره، وليته يكتفي بذلك، بل راح يبيع الوطن بأبخس الأثمان للأعداء والطامعين في سوق الإعلام المفتوح، ويعلن بملء الفم وعلى رؤوس الأشهاد استعداده للتماهي مع مخططات الأعداء من أجل مصالح فردية أو مذهبية زائفة.