الحج بين الماضي والحاضر
من العبادات التي لا يتم إسلام المسلم إلا بها عبادة الحج، وذلك حال الاستطاعة. وبالنظر إلى واقعنا المعاصر وما نلمسه من اهتمام شديد من الدولة وعلى رأسها خادم الحرمين الشريفين بهذا المنسك والسعي الشديد لراحة الحجيج وتوفير كل السبل لضيافة الوافدين على الرحمن، وبين اليوم والأمس مفارقات كثيرة في المشقة والتعب لأداء هذا النسك العظيم. وممن قام بتوصيف ذلك العلامة المصري محمد رشيد رضا عندما أراد الحج في نهاية عمره ويقارن ذلك بالحج في أول حياته فسطرت أنامله هذه العبارات الجميلة بقوله: ''كان الناس من المسلمين يحجون بيت الله - عز وجل - مشاة احتسابًا لزيادة الأجر لا للعجز عن الراحلة، حتى أن هارون الرشيد أعظم ملوك الأرض في عصره ثروة وترفًا وعظمة حج ماشيًا، ولكن كان يفرش له اللباد مرحلة بعد مرحلة فيطأ عليه. وكان الناس يحجون من أبعد أقطار الأرض عن الحجاز كالمغرب الأقصى والأندلس من جهة الغرب، والهند والصين من جهة الشرق إما برًّا فقط وإما برًّا وبحرًا فيقطع أحدهم المسافة في سنة أو سنتين أو أكثر، وينفق الألوف الكثيرة من الدراهم والدنانير مما يعده لهذا النسك من أطيب كسبه، ويعد إنفاقه أفضل ما يدخره لمثوبة ربه، فإذا هو عاد إلى وطنه حيًّا سالمًا أقيمت له الاحتفالات في أهله، ووجهت إليه التهاني من صحبه، ومن الأدباء والشعراء في وطنه إن كان من أهل العلم والأدب أو الوجاهة والثروة. وإننا لا نزال نرى بقية لهذه الاحتفالات والتهاني للحجاج في هذه البلاد القريبة من الحرمين الشريفين في هذا العصر الذي قربت فيه المسافة وسهلت فيه المواصلة، وصار من الممكن للمصري أن يسافر من مصر في أوائل ذي الحجة الحرام إلى مكة المكرمة فيحج ويتم المناسك في منتصفه، ولا يلبث أن يعود إلى وطنه في الأسبوع الثالث منه إذا لم يزر الحرم النبوي الشريف، ولولا الحجر الصحي الاحتياطي لما استغرق سفر الحج شهر ذي الحجة كله ذهابًا وإيابًا بمنتهى الراحة والرفاهة التي كان يعجز عنها الملوك في القرون الماضية. وأما نفقة الحج الرسمية فقد وضعت حكومة الحجاز لها تعريفة في هذا العام علم منها أنه يمكن للرجل أن ينفق على حجه هنالك بضعة جنيهات فقط دون الزيارة وبضع عشرة جنيهًات مع الزيارة، وقلما تصل نفقة ركاب السيارات في الحج والزيارة التي لا بد منها إلى 20 جنيهًا، وأحدثت للحجاج المترفين فنادق يجدون فيها أحسن الطعام وأنقى الماء وجميع أسباب الراحة والصحة. ولقد كنت أعددت لحجتي الأولى مع الوالدة - رحمها الله تعالى - 100 جنيه ذهبي، وإنما لم أنفقها كلها لأنني كنت ضيفًا للملك حسين - رحمه الله تعالى - مدة وجودي في الحجاز، كما كنت في الحجة الثانية ضيفًا للملك عبد العزيز - أطال الله بقاءه - موفقًا للإصلاح.
ومن أغرب أمر المسلمين في هذه الزمان أننا نسمع من بعض حجاجنا ونقرأ لبعضهم من المقالات في الجرائد من التبرم والشكوى من نفقات الحج ومتاعبه، ما يدل أصح الدلالة على ضعف دينهم وعدهم الإنفاق في سبيل الله ونيل القربات عنده من المغارم، وإن كانت واجبة، لا صدقات مندوبة. ويستبيحون لأنفسهم الطعن في الذين يخدمون الحجاج في حِلِّهِم وترحالهم وطعامهم وشرابهم ومنامهم وتعليمهم المناسك وصحبتهم في أثناء أدائها، وفي غير ذلك من الزيارات، والطعن في حكومتهم أيضًا مما يخشى أن يكون آية على أن حجهم غير مبرور ولا مقبول عند الله تعالى.
لهذا رأيت أن أنشر لهم في هذه الأيام من أشهر الحج أثارة تاريخية من حج المسلمين في القرون الوسطى التي كان حال أهلها في الدين دون حال من قبلهم في خير القرون، وما كانوا يقاسونه في هذه السبيل سبيل الله من الشدائد والمغارم راضين من الله محتسبين الأجر عنده؛ لتكون عبرة لمن يتذكر ويخشى الله - عز وجل - ويشكر نعمه على أهل هذا العصر'' ا.هـ.
ولو رأينا ما عليه الحال اليوم من توافر سبل الراحة وتقاعس كثير من الذين لم يحجوا عن أداء هذه العبادة لرأينا الفارق الكبير بين حرص السابقين وفتور المعاصرين، وأهمس لمن توافرت له أسباب الحج ولم يحج بلا سبب أن الأجل غير معلوم، فالبدار البدار وليعلم الجميع أن الجنة محفوفة بالمكاره.
أسأل الله أن يتقبل من الجميع حجهم وسائر أعمالهم وأن يحفظ علينا أمننا وأن يهيئ للحجاج حجهم بسكينة وهدوء في وافر نعيم وعود حميد إنه جواد كريم.