لماذا ينتشر الهنود في العالم؟ (1 من 2)

لا تذهب إلى مكان في العالم إلا تجد فيه هنودا، حتى قيل - من باب السخرية، التي برع فيها العرب تجاه هؤلاء، إنه حتى لو هبط صاروخ على المريخ لوجدت هنديا يركض نحوك وبيده جردل وقطعة من القماش ليقول لك ''بابا .. غسّل صاروخ''، وذلك في إشارة ساخرة إلى المطحونين من الهنود في دول الخليج ممن تجدهم مستعدين لغسل مركبتك في كل منعطف.
إن ظاهرة انتشار الهنود في العالم ليست بالجديدة أو الطارئة، فهي قديمة قدم الهيمنة البريطانية على مقدرات شبه القارة الهندية منذ القرن الـ18 حتى منتصف القرن الـ20. ففي ظل تلك الهيمنة أقنع المستعمر أبناء الهند - وأحيانا أجبرهم - على الانتقال من وطنهم إلى أوطان أخرى بعيدة من أجل استغلال سواعدهم في تحقيق مصالحه الخاصة. وعلى هذا الأساس تم ترحيل مئات الآلاف من الهنود إلى شرق إفريقيا لبناء خطوط السكك الحديدية، وإلى مناطق إفريقية أخرى للعمل في مناجم النحاس والألماس، وإلى سريلانكا للعمل في مزارع الشاي، وإلى الملايو للعمل في مزارع المطاط، وإلى أماكن أخرى من أجل المشاركة كمقاتلين في حروب بريطانيا الاستعمارية.
وحينما انتهت مهمتهم، رفض المستعمر إعادتهم إلى وطنهم الأم بحجة أن البقاء في أماكنهم الجديدة سيوفر لهم مستقبلا معيشيا أفضل، أو بحجة أن تلك الأماكن مثل وطنهم الأم، أي جزء من ''الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس''. لكن بأفول الشمس عن الأخيرة واستقلال الدول الإفريقية والآسيوية تباعا، صار هؤلاء لا مواطنين هنودا، ولا مواطنين في دول المهجر.
هذه كانت البداية لانتشار الهنود في العالم، التي تبعتها موجات أخرى من المهاجرين الذين تركوا وطنهم بإرادتهم إلى العالم الجديد في أمريكا الشمالية وبعض دول العالم القديم في أوروبا من أجل تحسين ظروفهم الاقتصادية، أو بهدف نيل التحصيل العلمي المتقدم. وحينما حقق هؤلاء أهدافهم فضلوا البقاء في دول المهجر المتقدمة للاستفادة من الظروف المعيشية التي لم يكن وطنهم قادرا على توفيرها في الحقبة التالية مباشرة لاستقلاله. وهكذا ظهرت أجيال متعاقبة من الهنود ممن برز أفرادها في مختلف الحقول، وجنوا أقصى ما يمكن من الفرص المتاحة في الغرب الأوروبي أو الشرق الآسيوي، قبل أن يصلح حال وطنهم الأم مع بداية العقد الأخير من القرن العشرين كنتيجة لقرارات التخلي عن الاقتصاد الاشتراكي المقيد للطموحات والمواهب والحوافز، وبالتالي ظهور الفرص الاستثمارية المربحة ومظاهر الحياة العصرية المشابهة لما تعودوا عليه في دول المهجر المتقدمة. حينها فقط بدأ الهنود هجرة معاكسة كانت لها نتائج إيجابية وأخرى سلبية.
تمثلت النتائج الإيجابية في حجم الأموال والاستثمارات التي حملها هؤلاء معهم من الخارج، إضافة إلى حجم الخبرات العلمية والعملية التي وضعوها تحت تصرف وطنهم الأم، وهي في مجملها عوامل مؤثرة في الاقتصاد الهندي الصاعد بخطى وثابة. أما النتائج السلبية فقد تجسدت في الظواهر الاجتماعية الدخيلة على المجتمع الهندي، التي جاءت مع العائدين مثل النزعة الاستهلاكية المفرطة، وحب اللهو والتفاخر، والإصرار على التحدث باللغات الأجنبية، والإفراط في التشبه بالمشاهير والنجوم في مجالات السينما والرياضة. وفي هذا السياق أشارت إحدى الدراسات التي أجريت على العائدين إلى الهند من المهجر - ومن ضمنهم بعض من قضى سنوات طويلة في الدول العربية - إلى أن الحكومة الهندية واجهت صعوبة في إعادة استيعاب هؤلاء في مجتمعاتهم الأصلية، خصوصا أولئك الذين تشربوا بعض الأفكار الأيديولوجية المتطرفة أو المحافظة، كما واجهتها صعوبة في كبح جماح نزعاتهم الاستهلاكية الشرهة وتفضيلهم المنتج الأجنبي على حساب المنتج المحلي.
وفي دراسة هندية أخرى حول هنود المهجر من إعداد الدكتور هايرمات، الذي كان في وقت من الأوقات مبعوثا شخصيا لرئيس الحكومة الهندية إلى جنوب إفريقيا، يؤكد الباحث أن أكبر الجاليات الهندية في الخارج تتركز في النيبال، فيجي، ماليزيا، بورما، سريلانكا، موريشوس، إفريقيا الوسطى، جنوب إفريقيا، منطقة الكاريبي، دول الخليج العربية الست، وأمريكا الشمالية. كما يوضح الباحث أن تعاظم أعداد هؤلاء استغرق نحو 100 عام في بعض الحالات، ونصف قرن في حالات أخرى. وتتوقف الدراسة عند نيبال لخصوصيتها، فيقول صاحبها إنها تستضيف نحو مليون هندي جلهم ممن انتقل إلى هذه البلاد المجاورة للهند، مستفيدا من الحدود المفتوحة بين البلدين ومن الاتفاقيات التي تعطي لرعاياهما حقوق العمل والإقامة في بلد الآخر.
وتـُخصص الدراسة المذكورة فصلا كاملا للحديث عن هنود موريشوس، وكيف أنهم انخرطوا في مجتمعهم التعددي الجديد، إلى حد تحدثهم بلغتها الرسمية (الفرنسية)، وكيف أنهم كانوا حجر الزاوية في الدفاع عن مؤسساتها الديمقراطية؛ خوفا من أن يكون البديل نظاما شموليا يعتمد التمييز والتطهير العرقي. كما تـُخصص الدراسة فصلا آخر للحديث عن هنود منطقة الكاريبي التي لئن بدأ نزوح الهنود إليها في حقبة الاستعمار البريطاني، فإن تعاظم عددهم بدأ مع إلغاء قوانين العبودية. وهكذا صار الهنود يشكلون 49.5 في المائة من إجمال السكان في جويانا، و42 في المائة من سكان ترينيداد وتوباجو، و38 في المائة من سكان سورينام. ويبدو أن تزايد أعداد هؤلاء المهاجرين، وتمتعهم بحياة مستقرة، وحصولهم على فرص معيشية جيدة نسبيا في دول الكاريبي، كانت من العوامل التي أسهمت في إرسال أبنائهم وبناتهم إلى مدارس ومعاهد نموذجية للتحصيل والتخصص، قبل أن يتم دفعهم إلى العمل الحزبي والسياسي، وبالتالي نجاح بعضهم في وقت من الأوقات في الوصول إلى مناصب حساسة كرئاسة الحكومة والدولة (فيجي مثالا)، الأمر الذي أثار سكان البلاد الأصليين من ذوي الأصول الإفريقية وجعلهم يمارسون التمييز ضد شركائهم في الوطن بحكم الميلاد والهوية والتقادم جيلا بعد جيل. وهذه، بطبيعة الحال، حالة مشابهة لما حدث للهنود في جنوب إفريقيا أثناء نظام الفصل العنصري.
أما قصة الهنود في بورما فتختلف من حيث النشأة، وإن كانت النهاية مشابهة لما حدث لهم في منطقة الكاريبي. ذلك أن عوامل مثل التصاق بورما جغرافيا بالهند، وارتباطها إداريا حتى عام 1937 بحكومة الهند البريطانية أسهمت في انتقال عشرات الآلاف من الهنود إلى بورما في فترات مختلفة، للعمل كتجار أو محامين أو أطباء أو محاسبين أو مقاولين أو جنود أو موظفين في الجهاز المدني الاستعماري. وتقول إحدى الإحصائيات إن عددهم في 1931 وصل إلى مليون نسمة أو 6.9 في المائة من عدد السكان، وكان معظمهم يسكن في العاصمة رانجون، ويشغل مراكز مرموقة بسبب شهاداتهم وتخصصاتهم العلمية مقارنة بالبورميين الذين لم يكونوا مؤهلين بعد. ويـُعتقد أن هذا العامل معطوفا على عامل آخر هو منافسة الهنود للبورميين في شراء العقارات والأراضي الزراعية بسبب مداخيلهم المرتفعة، تسبب في ممارسة التمييز ضدهم ومضايقتهم بغية إجبارهم على الرحيل. هذا الرحيل الذي تم فعلا، لكن لأسباب أخرى تمثلت في انفصال بورما إداريا عن الهند البريطانية في 1937، واحتلال اليابانيين بورما أثناء الحرب الكونية الثانية. حيث تسبب هذان الحدثان في عودة نحو نصف مليون هندي إلى بلدهم. أما من فضل البقاء فقد ذاق الأمرين، خصوصا في أعقاب استيلاء العسكر على السلطة في 1962، وإقدامهم على موجة من التأميمات الاشتراكية الاعتباطية. يتبع،،

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي