العقوبات البديلة .. اجتهاد وقضاء
في بداية الأسبوع تمّ عقد مؤتمر يناقش مسألة العقوبات البديلة، وكان هناك اجتماعٌ بين أطياف عدة من المؤسسات العدلية والجهات ذات العلاقة كالمديرية العامة للسجون، ومثل هذه اللقاءات تعزز الأفكار الإيجابية في الشأن الاجتماعي عموماً والشأن القضائي خصوصاً.
ولا شك أن الأهداف الأساسية من سن العقوبة والحكم بها هي الزجر والتأديب، وجل ما تتغياه الأنظمة العقابية الشرعية والقانونية من تنظيم العقاب، فضلاً عن زجر غير المجرم وتهديده بالعقاب، هو أن تفضي تلك العقوبات المطبقة والمقضي بها إلى إصلاح الجاني وإعادة تأهيله ليعود للمجتمع بعد تنفيذه العقوبة شخصاً سوياً لا خشية منه، وبغير هذا الهدف تعد العقوبات منحى غير صحيح، وقد تسلك سبلاً غير سبيل الاستصلاح، فالحدود والتعزيرات مجرد وسيلة لتحقيق تعادل نسبي بين الجاني والمجني عليه، حيث تنفق الدولة على مؤسسات العدالة من أجل إيقاعها الملايين والمليارات دون أن يكون هناك مردود مباشر من ورائها، وحرصاً على التطوير الفقهي القانوني تم التفكير في تطوير آليات تمكن العقوبة من تحقيق هذا الغرض بحسبانه الغرض الأسمى لها، فتمخضت عن أساليب متعدّدة في الأسلوب العقابي الذي ينهض بشكل أساسي على منح المحكوم عليه فرصاً للتوبة وإصلاح النفس، فوضعت عديداً من أساليب المعاملة العقابية داخل السجون بحيث تراعي ظروف المتهم واحتياجاته، وتم استحداث أنظمة وقف التنفيذ إذا رأى القاضي ابتداءً أن المتهم وظروفه وظروف دعواه لن يجدي معها تنفيذه العقوبة، وأن وقف تنفيذها سيكون له الأثر الأكبر في إصلاحه وتأهيله، وهو ما تنص عليه المادة الثامنة عشرة بعد المائتين من نظام الإجراءات الجزائية: (يجوز للمحكمة التي أصدرت الحُكم بالإدانة أن تأمُر بتأجيل تنفيذ الحُكم الجزائي لأسباب جوهرية توضِحُها في أسباب حُكمِها، على أن تُحدِّد مُدة التأجيل في منطوق الحُكم). وجعل المنظم هناك صلاحيات مرتبة بشأن الإفراج المؤقت والإفراج الشرطي وطرق العفو، كل ذلك حرصاً على تعديل أخلاق الجاني واستصلاح حاله، وكم رأيت في كثير من القضايا متهمين أخذت فكرة الذنب تفتك بأنفسهم بدءاً من ارتكاب الذنب، مروراً بجهات الضبط والتحقيق، وانتهاءً بقاعات المحاكم، وبعض هؤلاء تاب توبة نصوحاً، فالنظرة المتوازنة مهمة في الفكرة العقابية للمخطئين، وكلنا ذوو خطأ.
ومقاصد الشرع والنظام نظرت لشخصية المجرم وظروفه وأثرها في ماديات الجريمة وارتباطها بالإرادة والقصد، والقاضي ملزم عند إيقاع العقوبة أن يراعي هذين المبدأين معاً في المخالفات البسيطة والجرائم على السواء، والنظر المتوازن يتطلب من ناظر القضية اعتبار ناحيتين وهما متداخلتان إلى حد يبدو أنهما متناقضان، فلتحقيق الزجر والتأديب يقتضي الأمر تشديد العقوبة، ومراعاة شخصية المتهم يقتضي تخفيف العقوبة، ولا يستطيع القاضي أن يفعل شيئاً لإزالة هذا التناقض إلا أن يوفق بين المبدأين بقدر الإمكان، لكنه حين يفعل يتجه غالباً ناحية المتهم متأثراً في ذلك بمختلف العوامل المتعلقة بشخص الجاني وبما تفرضه الظروف الاجتماعية المتعلقة بشخصية الجاني من الميل إلى التخفيف.
ولا شك أن هناك من العقوبات ما يمكن أن يؤدي وظيفتي الزجر والردع ويكون له أثره في محاربة الجريمة دون أن يؤدي إلى تعطيل مجهود المحكوم عليه ويحول دون قيامه بعمله اليومي أو فقد أسرته عائلها، كاستغلال نشاطه في مجالات معينة باستبدال العقوبات المقضي بها بعمل ما لمصلحة الدولة أو إحدى جهاتها.
وعند النظر لبعض الدول التي أخذت بهذه المبادئ نجد أنها عالجت كثيراً من أحوال الجناة بخلق مهارات للمحكوم عليه يمكن الاستفادة منها، وفي بعض الأحوال قاربت بين رب الأسرة الجاني وبقية أفراد الأسرة بأساليب تجمع بين العقوبة الجنائية والتقارب الأسري العاطفي مثل الرقابة الإلكترونية وغير ذلك من الأساليب المبتكرة. إن النظرة القضائية العادلة تأبى أن يكون الحكم التعزيري فيه تباين اجتهادي بين القضاة، وأن تكون الأحكام بالسجن لجميع المخالفين في نمط واحد فيزداد المذنب ذنباً مع تعايشه مع عتاة الإجرام بينما لو كان الحكم بالإلزام بعمل اجتماعي لكان في بيئة عمل اجتماعي تؤثر بسلوكها في حياة الجاني وأخلاقه، وهذا هو الإصلاح المقصود في العقوبة.
إن مبدأ الأخذ بالعقوبات البديلة لم يعد خياراً ثانوياً، بل بات حاجة ملحة في ظل تنوع المساجين وكثرة القضايا وقلة وضعف إمكانات وسائل الإصلاح، وقبل ذلك تبقى ملامح السياسة الشرعية مؤيدة لمثل هذه الاجتهادات التي تنظر إلى معاني النصوص وروحها بعيداً عن الفكر التقليدي إزاء التعامل مع المخطئين. وفقكم الله لكل خير وصرف عنكم كل شر.