Author

تربية الرضا

|
في محل للألعاب دخل رجل وأسرته الصغيرة واقترب من البائع وسأله بحماس: "عندكم لعبة باربي ذات الرأس القابل للتغيير"؟ انتظرت لوهلة أن يُذهل البائع منه ويجيبه بأن ما يبحث عنه لم يوجد بعد، وقفت جانباً، بينما بحث البائع بين الرفوف وعاد للرجل وأخبره بأنها لم تصل بعد، ربما في الشهر المقبل! ظننت أن الأمر كله مزحة، لكنني ما أن عدت إلى المنزل حتى سألت "جوجل" وأجابني بأن الدمية موجودة، وأنها تحقق مبيعات هائلة بين الفتيات الصغيرات حول العالم. كنتُ متأخرة - كالعادة - في المعرفة بهذه الأمور. لكنني لا ألوم نفسي، لم تكن الدمى لعبتي المفضلة في الصغر، فقد وجدت السلوى في ألعاب المساحات المفتوحة وفي الكتب بطبيعة الحال. لكن ذلك لا يعني أن الدمى لعبة سيئة، إنها لعبة الفتيات المفضلة والعابرة للثقافات والتاريخ، وقد تزرع الكثير من المفاهيم الجيدة والإيجابية إلى جانب السلبيات التي تمنحها، إضافة إلى أن فكرة النموّ بمفهومها الخاص والعام يعززها اللعب والخيال. هذه الدمية - بالرأس المتحرك - بالذات تعيدني إلى مسألة تأثير اللعب على الأطفال، وما تصير إليه شخصياتهم في الكبر بسبب اللعب بها. في الولايات المتحدة الأمريكية 99 في المائة من الفتيات الصغيرات بين سنّ الثالثة والعاشرة يمتلكن على الأقل دمية "باربي"، ولسنا في عزلة من العالم في هذا المجال، "باربي" وإن اختلفت شركات تصنيعها وأشكالها - حتى النسخ المعرّبة منها - تتبع نفس المقاييس التي وضعتها شركة ماتل في خمسينيات القرن الماضي، وربطتها بجمال المرأة المثالي! من الذي حدد هذه المقاييس ولماذا؟ هذا مرتبط بمدى انتشار الدمية وطريقة التسويق الساحرة التي أوصلتها لكلّ بيت. وقد أجريت مئات بل آلاف الدراسات على الأطفال وعلى البالغات من النساء حول تأثير دمية "باربي" على مدى تحقق الرّضا لديهم حول شكلهن الخارجي وحول أشياء أخرى في حياتهنّ. في الموقع المخصص لدمى "باربي" قضيت وقتاً مطولاً مذهولة بالتفاصيل والتبويبات التي تنقلني من شراء الدمية لشراء كل متعلقاتها، واللعب الافتراضي في الموقع إذا لم أمتلكها مادياً - حتى حين -. كنت أفكر خلال ذلك برأس طفلة السابعة - أو الثامنة - التي تلتقط هذه المباهج بعينيها وتصرّ لاحقاً على ذويها لاقتنائها. وهكذا في سلسلة طويلة من رحلات التسوق التي لا تنتهي، وهي ميزة الجيل الحالي من الأطفال - الذكور والإناث - لا يكتفون بلعبة واحدة، لا يكتفون بساعات مختصرة لمشاهدة التلفاز، كل شيء متسارع وملوّن وصاخب! في عام 2004م ظهرت الأمريكية سيندي جاكسون على شاشة أخبار سي بي أس لتقول: "في عمر السادسة أمسكت بدمية الباربي وقلت لنفسي أريد أن أكون مثلها". العبارة ليست جديدة، لا شكّ أن الكثير من الفتيات الصغيرات – والكبيرات - قلنها، بينما ينظرن بحماس لنماذجهنّ المثالية. لكن سيندي جاكسون حالة خاصة، سيندي التي حملها نقص الرضا لديها لتكون ملكة عمليات التجميل بامتياز، وصاحبة رقم جينيس الذي لم يكسره أحدٌ حتى يومنا هذا. خضعت سيندي لما يزيد على خمسين عملية تجميل بين عام 1988م واليوم، أربع عشرة عملية منها كانت تحت تخدير كامل! سيندي لم تتوقف عند تعديل قياسات أنفها وجفنيها، أو حتى قطع الدهون الزائدة من ركبتيها، تقول إنّ الرضا عن شكلها بالكامل مسألة بعيدة حالياً، وما دامت التقنيات والعلم يمنحها الفرصة للتغيير فلمَ لا؟ في لقاء أجرته مع قناة أي بي سي الأمريكية تحدثت عن كفيها اللتين لا يعجبها شكلهما مقارنة بالتحسينات التي أجرتها لباقي جسمها، فحقنتهما بمادة منشطة لإنتاج الكولاجين حتى تختفي عروقهما النافرة. سيندي ظهرت لوسائل الإعلام وترك والدها ثروة طائلة استفادت منها في هذا الهوس، ماذا عن اللاتي لا يمتلكن لا المال ولا الفرصة للتعديل والتحوير؟ إنهنّ يعشن صراعا أبديّا مع مظهرهن الخارجي، والرضا .. ضرب من المستحيل. أنا لا أقول سارعوا لسحب الدمى من أيدي فتياتكن، أو أن كلّ طفلة تلعب بالدمى ستتحول إلى امرأة لا ترضى عن شكلها وما تملكه من ماديات يوماً. كل شيء قابل للتطويع والتوظيف بشكل إيجابي بوجود الرقابة والتوعية، إنّ اقتراب الوالدين من صغارهما، وتوضيح حقيقة أن ما يجوز في عالم الدمى لا يجوز في عالم البشر ضرورة ملحة!
إنشرها