Author

أعينونا على شكركم!

|
نعيش اليوم في عالم مضطرب، وعندما نقول ذلك لا نستثني أي قطاع من قطاعات الحياة، مضطرب اقتصادياً وسياسياً واجتماعياً والقائمة تطول! في وسط هذه الفوضى يحتاج الإنسان قبل أي شيء آخر إلى وعيه الكامل، إلى سلاحه الأوحد والأهم "عقله". وكيف يصل البشر للوعي والتفكير السليم إذا لم يتم زرع ذلك فيهم مبكراً؟ وأي السبل تتيح لنا ذلك؟ هذه الأسئلة المقتضبة ترشدنا إلى إجابة وحيدة وحاسمة: التعليم! نعم في هذا الوقت العصيب نحنُ بحاجة لتعليم بأعمدة أسمنتية لا تميل، وبدلاً من الاحتفاظ بأهداف وغايات جامدة لا تتغير نحنُ بحاجة لتحويل أهداف التعليم لتتناسب وواقعنا المتغير المضطرب كلّ مرة بحسب ما نواجهه. في الأعوام العشرة المقبلة سيحتاج الخريجون وجهات العمل بالمقابل إلى مؤهلات وظيفية أعلى، وكوادر مجهزة ليس فقط بالشهادات العالية المعتمدة، بل بالمعرفة المرنة التي تثري العمل وترفع من كفاءته. عندما نتحدث عن التعليم فنحنُ لا نقصد بالضرورة التعليم العالي، هذه نظرة ضيقة ومحدودة ومؤقتة. حتى برامج التطوير التي تعتني بالتعليم العالي وتهمل باقي مراحل التعليم تغفل جانبا مهمّا، فلا شيء يمكن تقديمه على التأسيس العلمي للإنسان. في المراحل التعليمية الأولى تقع المسؤولية على معلمين ومعلمات يشتكون حالياً من سوء ظروف عملهم ومعيشتهم بالضرورة، وهذه الحالة ليست محلية فقط إنّها مشكلة عالمية! هؤلاء الذين نضع أطفالنا في عهدتهم لساعات يومياً لزرع مبادئ التعلم والمهارات، يعانون بصمت من الملل والرتابة والقيود التي توضع على توجهاتهم وابتكاراتهم لجعل مهمتهم أكثر متعة وسهولة. تحت هذه الظروف يولد اليأس من العمل شيئاً فشيئاً، ويصبح شعار شريحة كبيرة من المعلمين والمعلمات لننجز هذه المهمة سريعاً ونغادر. ومن المتضرر الأكبر؟ المتعلم الذي ينتقل من مرحلة دراسية لأخرى ناقلاً معه مشاعر الرتابة والنفور لتصبح عملية التعلم محكومية طويلة وعليه إنجازها بأقل جهد. من جهة أخرى ولإحقاق الحقّ لا يمكننا تعميم هذا التصور على كل من يعملون في قطاع التعليم، هناك من يجتهد بلا توقف حتى مع غياب الاهتمام والاعتراف المنشود بجهوده. مررت قبل عدة أيام بموقع أمريكي يحمل مبادرة رائعة تتوجه للمعلمين والأساتذة بشكل عامّ تحت عنوانThanks for Teaching Us، تمتد هذه المبادرة لمدة شهر وتتيح لكل متعلم وخريج ومتقاعد توجيه رسالة شكر لكل من علمه شيئاً. في صندوق رسائل صغير يكتب الزائر اسم المعلم - أو المعلمة - ويشكره على تدريسه أيّ مهارة كانت، ثم ينتقل لخانة أخرى يشكره فيها على الإيحاء له بفعل كذا وكذا، ثم يوقع الرسالة باسمه والجهة التعليمية التي التقى فيها هذا المعلم. بعد إتمام تسجيل الشكر يمكنك إرسال رابط هذه الرسالة للبريد الإلكتروني الخاص بالمعلم - في حالة كنت تملكه - ويمكن أيضاً للمعلمين استكشاف الموقع بالدخول وكتابة أسمائهم أو أماكن عملهم لرؤية الرسائل التي وُجّهت إليهم. فكرة رسائل الشكر هذه جعلتني أتسمر أمام الشاشة لساعات، أفكر في المعلمات اللاتي مرت بهنّ حياتي الدراسية، كل واحدة تركت أثراً ما على شخصيتي وتوجهاتي العلمية لاحقاً. إنه مخيف حقاً أن استعيد عقدين من الزمان أحاول جاهدة تعداد اللاتي سأشكرهن، ولا يتجاوز هذا الرقم أصابع كفّ واحدة؛ وذلك في فترة يمكن اعتبارها "العصر الذهبي" للتعليم مقارنة بما يتحدث عنه طلاب وطالبات اليوم وأسرهم حول المعاملة والأفكار التي يزرعها بعض المعلمين والمعلمات في رؤوسهم. شعور الملل الذي يتسلل من المعلم لطلابه يقود للإحباط، والقناعات المسبقة بأنه لا جدوى من تحصيل المعرفة. إنّ إخفاق المعلم - والمعلمة - في أداء المهامّ الرئيسية لهم لا يأتي من صعوبة المهمة أو قلة المردود المادي والمعنوي الذي يصلهم من خلالها، إنه يرتبط بشكل أساسي بشعورهم تجاه الأمانة الثقيلة الموضوعة بين أيديهم. وإن بدا الموضوع ضبابياً ومعقدا فلأنه كذلك! لا يمكن وضع اللوم على جزء من هذه الحلقة وإهمال الباقي، لا يمكن القول إن المعلمين تقاعسوا أولاً وتمّ تجاهل تحسين أوضاعهم لاحقاً، لا يمكن القول إن الطلاب مصابون بالملل أساساً وأصبح المعلم بالتالي ملولاً بسببهم! تتعدد المداخل والتفسيرات لهذه الحلقة وتبدأ من مكان ولا تنتهي، وتختلف طريقة معالجتها باختلاف الحالة والأفراد. ما يمكن المطالبة به "دائماً" أن يكون الجميع على قدر المسؤولية وحمل الأمانة، معلمين ومتعلمين.
إنشرها