في العمارة.. هل الشكل يتبع الوظيفة أم التقنية أم ماذا؟
حينما يدرس طلاب العمارة النظريات والفلسفات التي تشكل الأسس التي يبنون عليها التصميم تأتي الجدلية القائلة: هل الشكل يتبع الوظيفة أم أن الوظيفة تتبع الشكل؟ وما بين ميزفان درو ولوكوربوزيه من رواد العمارة هناك جدل دائر، ولست بصدد بسط الحديث عنها إذ هي اتجاهات يستطيع كل طرف أن يدافع عن ما يتبناه، لكن المحصلة النهائية لدى المعماريين أنهم ينشدون الجمال الذي تعبر عنه المباني وتجعل من المبنى تحفة رائعة ورمزا ينطق بأسس الجمال المعماري والتناسق والتناغم.
إلا أن الذي أود طرحه في هذه المقالة هو أن ما نشاهده اليوم من بعض المباني والتي اتخذت من تلك الجدليات أشكالا ورمزية بصورة مفرطة، وقد أصبحت عائقا للوظيفة أو مصدر سخرية من تلك الرمزية، فإن كانت تلك الأشكال من غير المعماريين فتلك مصيبة وإن كانت من معماري مصمم فالمصيبة أعظم.
قبل سنوات شاهدت مخططا لمركز أمراض الكلى وللوهلة الأولى ترى أن المصمم قد وضع المركز على شكل (كلية) بمقياس المبنى وهو باعتقاده أن تلك الفلسفة هي ربط بين المريض وما أصابه والطبيب والعمارة، لكن غاب عنه أنه وبهذا الشكل الذي ينحني على شكل الكلية لا يمكن لأحد أن يدركه وهو بهذه الصورة ولن يستطيع أن يدرك هذا الشكل إلا من الطائرة، فتساءلت فقلت: ماذا لو كان المركز مركز الكبد والعظام و... إلخ.
وفي داخل مواقف سيارات في أحد أقبية المباني في الرياض كان المبنى في الأسفل يعاني من منحنيات صعبة مما تسبب في نقص أعداد المواقف جراء تلك المنحنيات.
إن صورة الشكل الخارجي للمبنى يفترض أن تساعد على التعرف على المبنى من الداخل وتحدد شخصيته فمبنى السكن يختلف عن مبنى المكاتب والفيلا تختلف عن المصنع و... إلخ، والشكل الخارجي في نظري لابد له أن يحترم الذوق العام والشارع والحي والمدينة وغيرها عوامل تسهم في تشكيل ذلك الشكل ورسم صورة متناغمة معه، أما إذا كانت تختلف بشكل جذري فهي بدون شك تتسبب في تشوه بصري يحتاج معه إلى معالجة.
ولكن تلك الجدليات قد طغى عليها اليوم شيء آخر لم يكن في حسبان المعماريين في هذا الزمن إذ إن التقنيات الحديثة أنتجت لدائن ومواد يتحول معها الشكل بشكل سريع وتتلون كألوان الطيف وهي بأشكالها وأدواتها استطاعت أن تكتسح كل أرجاء المعمورة وتمتاز بمميزات عدة من لدائن مرنة تتشكل بالحاسوب وتقطع بمصانع دقيقة وتركب بسرعة فائقة، واستطاعت أن تغير من شكل المباني جملة وتفصيلا.
وأصبح العمران المشاهد يتغير بتغير تلك التقنيات التي لا تدع لنا مجالا في أن ندرس كنهها أو أن نتعرف على مكوناتها.
و تبرز في هذه الأيام تقنيات مواد بناء من صفائح الألمنيوم اللدنة لتضيف مفهوما آخر وفلسفة أخرى وبات الشكل يتبع التقنيات وخصوصا التكسيات الخارجية والتي تعتمد على تلك المواد فهي سهلة التركيب وسهلة التشكيل، ومعها استطاعت مباني كثيرة في الرياض أن تغير من شكلها الخارجي بشكل سريع.
لكن تلك التقنيات وسرعة انتشارها يتطلب في نظري أمرين،
الأول: الدراسة لهذه المواد ما لها وما عليها، وما يمكن أن نطبقه من تلك التقنيات عليها، وأن تخلص إلى نتائج نستطيع أن نعرف منها إلى أي مدى يمكن أن نذهب معها، وما لها من أبعاد قد تؤثر في البيئة وفي الشكل الخارجي وفي الذوق العام لهذه المدينة.
ثانيا: في أي شكل ممكن أن نذهب مع التقنيات وهل المباني التي صرفت على الرخام مبالغ جمة وعلى شكلها الخارجي وفي يوم وليلة تفاجأ بأنها قد غطت ذلك الرخام بهذه التكسية التقنية السريعة من صفائح الألمنيوم ومع ألواح زجاجية، وقد بدا لك المبنى وكأنه مبنى مكاتب ولا يمت للسكن بأي صلة.
إن شكل العمارة اليوم ومن دون شك يتبع التقنية إلا أننا إذا لم نعتن بعمارة التقنية والتقنيات فإن الأمر سوف يصبح نشازا لا ينفع معه أي غطاء يكسى ولا أي لون يعطى.