Author

11 سبتمبر .. ازدواجية المعايير السياسية الأمريكية

|
عند نشر هذه المقالة يكون حلول الذكرى العاشرة لعاصفة أيلول (سبتمبر) 2011م. ففي ذلك اليوم قام انتحاريون بتفجير برجي مركز التجارة العالمي في نيويورك والمقر الرئيس لوزارة الدفاع الأمريكية (البنتاجون) بطائرات مدنية. وقد أدت التفجيرات إلى مصرع آلاف الضحايا من المدنيين. وكانت هذه العاصفة، هي مدخل الإدارة الأمريكية لما أصبح معروفا بـ''الحرب على الإرهاب''. ولم يعد سرا أن ما حدث في سبتمبر قد اتخذته إدارة الرئيس بوش ذريعة لتنفيذ أجندات استراتيجية، بدأ الحديث عنها منذ أكثر من ربع قرن، قبل حوادث سبتمبر بوقت طويل. والهدف هو إعادة صياغة الخريطة السياسية للمنطقة بصورة أكثر دراماتيكية من تلك التي شهدتها في نهاية الحرب العالمية الأولى، إثر وضع اتفاقية سايكس - بيكو ووعد بلفور موضع التنفيذ. وكانت التصريحات المتتالية لبعض المسؤولين في الإدارة الأمريكية، في مقدمتهم الرئيس جورج دبليو بوش ووزير دفاعه، رامسفيلد ومستشارته لشؤون الأمن القومي ووزيرة الخارجية لاحقا، كوندا ليزا رايس، وريتشارد بيرل.. وبعض التقارير الصادرة عن معاهد استراتيجية ومراكز أبحاث، وصحف رئيسة كالـنيويورك تايمز والواشنطون بوست قد أفصحت عن بعض تفاصيل تلك الأجندة، وأبرزت خرائط جديدة قيل إنها تشكل صياغات مقترحة لخريطة جيوسياسية للمشرق العربي يجري العمل على تنفيذها. والإشارات واضحة... والمطلوب استبدال النظام الإقليمي العربي الذي ساد منذ نهاية الحرب الكونية الثانية، بآخر شرق أوسطي، يستعيض عن الدولة القطرية بكانتونات وفيدراليات تقوم على أسس القسمة الطائفية والإثنية. وأن يكون النظام الجديد، بكل مفرداته وتفصيلاته السياسية والعسكرية والاقتصادية، بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية، سلطان القوة فيه بيد الكيان الصهيوني الغاصب. وكان رئيس الوزراء الإسرائيلي في الثمانينات، شمعون بيرير، قد أصبح عرابا لهذا المشروع، وأصدر كتابا عنه تحت عنوان الشرق الأوسط الكبير، روج فيه وبشر بالمزاوجة بين المال العربي والعقل الصهيوني. لم يعد هذا المشروع مجرد تنظير سياسي، فقد اتخذت حوادث سبتمبر مدخلا لفرضه بالقوة على أرض الواقع، وكان احتلال أفغانستان الخطوة الأولى على طريق تنفيذه. وبالنسبة للمنطقة العربية، كان احتلال العراق هو البوابة التي انطلق منها مشروع الشرق الأوسط الجديد، ليهدد الأمن القومي في بقية البلدان العربية. وتتابعت محطات التنفيذ، فشملت بعد العراق، فلسطين ولبنان والسودان، ولا تزال التلميحات والتلويحات ونبرات العداء التي تحملها تصريحات لمسؤولين أمريكيين مستمرة، مهددة بحملات ومشاريع أخرى تشمل مراكز النهضة والثقل الجغرافي والسكاني والاقتصادي في المنطقة العربية. وكان مشروع الإستراتيجية الكبرى الصادر عن مؤسسة راند (الأمريكية) هو الأبرز في قائمة تلك التهديدات. لا شك أن مشروع الشرق الأوسط الجديد قد تعثر في العراق، بسبب الضربات التي ألحقتها المقاومة الوطنية العراقية في قوات الاحتلال، وتمسك العراقيين بعروبتهم. وعلى الرغم من إنجازات المقاومة، فإن هناك محاولة للخلط بين الدور الذي يضطلع به العراقيون على طريق استعادة استقلالهم، واستعادة العراق لسيادته، وعودته عربيا حرا فاعلا ضمن المنظومة العربية، وبين الدور التخريبي والقتل على الهوية الذي تضطلع به الميليشيات المشبوهة من مختلف الطوائف والعصبيات السياسية والمذهبية، بهدف خلق الفتنة بين أبناء الشعب الواحد، بدعم وتحريض من المحتل. وفي عملية خلط الأوراق، لا يلوح أمام شاشات الفضائيات سوى السيارات المفخخة التي تقتل المدنيين الأِبرياء. وتتيه في عتمة التشويه والتزييف حقائق مهمة، يعترف بها البنتاجون، عن الدور الوطني الذي يضطلع به الشرفاء الذين لا يكلون من التنسك بعروبة ووحدة التراب العراقي. في بداية الاحتلال، تكرر الحديث عن عراق جديد، ودخول المنطقة بأسرها في عصر كوني، سمته الحرية والديمقراطية والتعددية، وعن دور للمرأة في العراق الديمقراطي. وإذا بالوقائع تعري زيف المشروع منذ أيامه الأولى، حين نصب مجلس حكم انتقاليا عراقيا على أسس محاصصات طائفية، وجرى تقسيم العراق سياسيا، بمسميات فيدرالية، بموجب خطوط العرض التي حملها مشروع كلينتون لحظر الطيران العراقي أثناء فترة الحصار الذي فرض على العراق، منذ عام 1990 حتى 9 نيسان (أبريل) عام 2003، إثر احتلال بغداد. فكانت النتائج تراجع التعليم واستفحال الأمية، وتدهور القطاع الصحي، وانقطاع التيار الكهربائي، وتراجع حقوق المرأة، وسن قانون جديد للأحوال الشخصية يعيد شعب العراق لعهود الظلام، وإعادة الاعتبار للدجالين والمشعوذين؛ ليتحقق وعد جيمس بيكر بإعادة العراق إلى عصور ما قبل التاريخ. وبدلا من إقرار الأمريكيين بفشل مشروع الشرق الأوسط الجديد، اختاروا الهروب إلى الأمام. وكانت تعابير هذا الهروب قد تمثلت في استعار صهيوني بالأراضي الفلسطينية المحتلة، شمل تقطيع أوصال الضفة الغربية، ومحاصرة رام الله، وقطاع غزة وتدمير مخيم جنين، وحملة اغتيالات واسعة في صفوف القادة الفلسطينيين الذين يرفضون التسليم بأن المشروع الصهيوني قدر مقدر عليهم. كما كانت تعابير هذا الهروب قد تمثلت في قصف همجي إسرائيلي وحشي واسع على جنوب لبنان والضاحية الجنوبية في مدينة بيروت استمر لـ33 يوما، بتحريض ودعم سياسي وعسكري واقتصادي من الإدارة الأمريكية. وكان السودان ساحة أخرى للتعبير عن خيار الهروب إلى الأمام. وللأسف لم يسلم كثير من المثقفين العرب، بمخاطر المشروع الشرق أوسطي على الأمة العربية، إلا بعد أن شهدت عدد من البلدان العربية، حرائقه ولم يعترفوا بنواياه المبيتة إلا بعد ما جرى في لبنان، وبشكل خاص بعد أن أعلنت كونداليزا رايس صراحة، بأن ما يحدث هو مخاض الولادة لشرق أوسط جديد،. عند ذاك فقط، بدأ التسليم بمخاطر هذا المشروع، وصار مألوفا التحذير من نذره على العرب في تفتيت المنطقة، إلى كانتونات وفيدراليات، كما حدث في العراق. نحن أيضا نوافقهم في رؤيتهم لمخاطر مشروع الشرق الأوسط الجديد على المنطقة بأسرها، وأنه ينبغي على العرب مقاومته، وتقديم الغالي والنفيس دفاعا عن وحدة الأوطان. ومن هذه الرؤية، وقف المخلصون، قادة وشعوبا خلف لبنان يقدمون له الدعم والمؤازرة، ويشاركون في إعادة بناء ما دمرته الحرب، ويضمدون جراحات المصابين. وكانت هناك اجتهادات مختلفة حول ما جرى، شملت اللبنانيين والعرب.. وهي اجتهادات مشروعة ما دام الذي يحكم بوصلتها هو الحرص على وحدة لبنان وعروبته. لكن النتيجة تقتضي القول إن صمود شعب لبنان ومقاومته الوطنية، دون تقليل من شأن الآخرين وتضحياتهم، هي التي كان لها الدور الأساس، في منع المشروع الشرق الأوسطي من التمدد. لكن ما يصدم في هذا السياق، ازدواجية المواقف لدى البعض حين يتعلق الأمر بالمقاربة بين دور المقاومات العربية في فلسطين ولبنان والعراق. فما دمنا قد اتفقنا على أن المشروع الشرق أوسطي الذي تقف خلفه الإدارات الأمريكية، يستهدف تفتيت المنطقة بأسرها، فكيف نقف مع المقاومة في فلسطين ولبنان ولا نقف معها في العراق؟ أو ليس مشروع التفتيت واحدا في مضامينه وأهدافه، وفي الأطر التي يبغي تحقيقها على أرض الواقع العربي؟. كيف ندين أولئك الذين يتعاطفون مع مشاريع الفيدرالية في لبنان وفلسطين ولا ندينهم في العراق؟ أو ليس احتلال العراق هو بوابة تحقيق مشروع الشرق الأوسط الجديد؟ وتتداعى الأسئلة: لماذا نقول بوجوب المقاومة حتى تتحرر مزارع شبعا، وهو كلام ليس لدينا اعتراض عليه، ثم نطالب الشعب العراقي بالصبر والحكمة. أو ليس لهذا الشعب نفس الحقوق في مقاومة الاحتلال، كما هي معترف بها بالنسبة للبنانيين والفلسطينيين؟... سيقول البعض إن العراق مسألة مختلفة، حيث اتفق قطاع كبير من العراقيين على القبول بالعملية السياسية ودخلوا فيها. لا بأس إذا نقبل بذلك، رغم أنه يغيب قضية الوعي بماهية المشروع الأوسطي الهادف إلى تفتيت المنطقة بأسرها. وهي ماهية تجعل كل من يتعاون مع المحتل ويقبل بمشروعه السياسي موضع شبهة. لكننا إذا قبلنا بذلك جدلا، فما بالنا نتردد عن القبول به في لبنان، حيث ينقسم اللبنانيون أيضا تجاه موضوع المقاومة، فيقول بعضهم إنها الطريق إلى حماية لبنان، ونحن نقبله منهم، بينما يقول آخرون، ولهم أسبابهم الخاصة: إن المقاومة كارثة لحقت بلبنان وأدت إلى تدميره. وبالمثل، هناك أيضا في فلسطين، خطوط سياسية عدة بعضها يرى في أوسلو مرجعية للحل السياسي، وبعضها الآخر يرى في أوسلو تكريسا للاحتلال، وأن السبيل لطرد المحتل هو المقاومة بكل أشكالها، بما فيها الكفاح المسلح. سيرد علينا: إن المقاومة في العراق لم تتضح معالمها، ولا القوى السياسية التي تقودها. وإن ما يطفح على السطح يشير إلى صراعات داخلية وقتل على الهوية الطائفية. هذا القول أيضا ينسحب على كل المقاومات العربية والعالمية دون استثناء، بما يعني أن محاولة خلط الأوراق هي ظاهرة طبيعية عندما يقاوم شعب غزاته. ومع ذلك يواجهنا سؤال آخر: لماذا يكون مقبولا الدخول في العملية السياسية بالعراق، ولا يكون مقبولا في فلسطين ولبنان؟. أو ليس بإمكان القوى العراقية التي تدعم المقاومة اللبنانية، بسبب من انتماءات طائفية، بعد أن تكشفت لها حقيقة المشروع الأمريكي، أن تقوم هي بنفسها بقيادة المقاومة لمشروع التفتيت في العراق، بدلا من التعاطي معه عراقيا، ورفضه لبنانيا؟. أو ليس من الأجدى أن تتحد الخنادق الوطنية في جميع الأقطار التي تواجه تحديا احتلاليا مماثلا؟. أو لا يشكل ذلك قوة للقوى التي ترفض المشروع الشرق الأوسطي الجديد، ويسرع في هزيمة المحتلين؟ وأخيرا وليس آخرا: أولا يعتبر التمييز بين المقاومات العربية ازدواجية صارخة في الموقف من مشاريع الهيمنة الأمريكية والصهيونية؟! أسئلة مشروعة تكشف ازدواجية المعايير، لدى كثير من المثقفين العرب ليس من المقبول تأخر الإجابة عنها بعد مضي عقد من الزمن على حوادث سبتمبر، ووضع مشروع الشرق الأوسط الجديد موضع التنفيذ.
إنشرها