رحلة إلى ساحة البوعزيزي وسيدي بوزيد وبحر الزيتون
كلمة واحدة هي التي أطاحت به "ارحل" هكذا صحونا دون بن علي، ولعل الحدث كان أقرب إلى الكومتراجيديا، فبقدر كونه مفرحًا بإفراط، فإنه مؤلم إلى حدود كبيرة أيضًا، ففي العالم المتحضر حين يرحل الرئيس عبر صندوق الاقتراع أو حين تنتهي فترة ولايته، يتم ذلك باحتفال رسمي، بتسليم وتسلّم المسؤولية.
> في طريقي من العاصمة تونس إلى المحافظة الثانية صفاقس وبعدها إلى محافظة سيدي بو زيد كنت أتطلّع على امتداد النظر إلى غابات شاسعة من أشجار الزيتون، وبدت لي تلك الغابات مثل بحر بلا ضفاف، وانشغلت طول الطريق الذي زاد على 300 كيلومتر أقارن وأربط بين الثورة التونسية ومستوى المعيشة المقبول نسبيًا في تونس، سواءً لبلدان نفطية غنية مثل ليبيا أو الجزائر أو العراق أو غيرها.
ولعل الأمر لا يتعلق بالزراعة والأراضي الزراعية في الريف، بل في المدن والمناطق الحضرية بما فيها الأحياء الشعبية، فلا يمكن مقارنتها بدول وارداتها الريعية تزيد عشرات المرّات على تونس، لكن مستوى معيشة سكانها أخفض بكثير منها، فما بالك بدول فقيرة.
وإذا كانت المقارنة بالدول النفطية أو دول اليُسر لصالح تونس، فبالتأكيد ستكون المقارنة بدول العُسر لجانبها أيضًا، الأمر الذي في حاجة إلى التفكير في مآل الثورة والفئات التي قادتها ودور الشباب الذين كانوا المحرّك الأساس لها، فثورة تونس لم تكن ثورة جياع، بل ثورة من أجل الكرامة والحرية.
عندما وصلت محافظة سيدي بوزيد التي يبلغ سكانها نحو 400 ألف نسمة وعدد سكان المدينة لا يزيد على 50 ألفًا، عرفت أن فيها حركة نقابية متطورة يقودها التهامي الهاني الذي التقيته وشرح لي مسارات الثورة ويومياتها بعد سيدي بوزيد، حيث سقط العديد من الشهداء في منزل بوزيان والرقاب ومكناسي والقصرين وتالة وحاجب العيون ونصر الله وسيدي عمر بوحجلة، ثم اندلعت تحركات في المهدية والمنستير وسوسة والقيروان، وهذه المناطق مرّ الباحث على معظمها وتوقف عند بعضها وصولاً إلى العاصمة تونس التي اندلعت انتفاضتها يوم 4 كانون الثاني (يناير) 2011، وهي التي علّقت الجرس كما يقال، وأرغمت الرئيس السابق زين العابدين بن علي على الرحيل.
لعل الحكاية بدأت بإضرام محمد البوعزيزي النار في جسده صباح الجمعة (17 كانون الأول/ ديسمبر/ 2010) فقد عزّت عليه نفسه إثر صفعة تلقّاها وسط حشد شعبي من الشرطية فادية حمدي لاعتراضه على منعها ومصادرتها مصدر الرزق الوحيد له ولتسعة أفواه من أسرته.
كان ردُّ بوعزيزي على كرامته المجروحة إنهاء حياته احتجاجًا، ولا سيما أن فرص الحصول على عيش كريم باءت بالفشل، حيث استشرى سوء الإدارة وفساد السلطة في جسد الدولة وجميع مرافقها، ناهيكم عن شحّ الحريات المزمن.
كان إحراق بوعزيزي نفسه خاطفًا ومُتقنًا، ففارق الحياة وسط حيرة ودهشة المجتمع السيدي بوزيدي بشكل خاص والمجتمع التونسي بشكل عام، حيث انتشر الخبر مثل النار في الهشيم، وشاع بسرعة خاطفة مثل البرق، وأصبح بفضل العولمة، وهذا جزء من وجهها الإيجابي أمام وجهها المتوحش، على كل لسان وأمام كل ناظر بفعل التويتر والفيسبوك واليوتيوب والإنترنت والمحطات الفضائية، فقد كان يكفي شرارة واحدة ليشتعل السهل كلّه، كما يقول ماوتسي تونغ.
كل شيء قبل هذا التاريخ بدا هادئًا، بل اعتياديًا، لكن النار كانت تضطرم تحت الرماد كما يقال، فما إن حركتها ريح شديدة، حتى اشتعلت، ملتهمة كل ما حولها من أوهام القوة وجبروت الاستبداد والرفاه الزائف لا سيما إذا كان من دون حريات.
ومن يرقب مسيرة تونس في السنوات الـ20 ونيّف الأخيرة، ولا سيما منذ تسلم زين العابدين بن علي الرئاسة سيلحظ النقيضين: هدوء ظاهري ومستوى معيشي لا بأس به وسلطة أقرب إلى الحداثة وحقوق المرأة مكفولة دستوريًا في أحسن مستوى قانوني في الوطن العربي، وهي إنجازات تُحسب بشكل أساس للرئيس الحبيب بورقيبة، الذي قاد تونس منذ الاستقلال حتى أواخر الثمانينيات رسميًا، ولكن من جهة أخرى كان البوليس السري بالمرصاد لكل من يتفوّه بكلمة ضد الرئيس وحاشيته أو يعارض النظام، كما كان القمع وشحّ الحريات والفساد المالي والإداري وتمركز السلطة جميعها في يد رئيس الدولة، الذي أصبح تدريجيًا حاكمًا متسلطًا لا يتورّع عن القيام بكل شيء دون مراعاة اللوائح الدولية لحقوق الإنسان، فضلاً عن مخالفته دستور البلاد ذاته.
ولعل تلك السمات تكرست تدريجيًا في بنية الدولة التونسية التي لم تعرف منذ الاستقلال عام 1956 التداول السلمي للسلطة أو إجراء انتخابات حرّة أو نزيهة أو الاحتكام إلى قواعد الديمقراطية المعروفة مثل سيادة القانون وفصل السلطات واستقلال القضاء والمساءلة والشفافية، ناهيكم عن الحريات.
كان حادث إحراق بوعزيزي نفسه مؤثرًا ودراماتيكيًا لدرجة أنه لم يحرّك الشباب التونسي وحده، بل حرّك الشارع العربي، في إطار حملة تضامن ضد نظام بن علي، وبدأ الشباب باقتناص اللحظة الثورية بامتياز، فلو تأخرت، لكان من الممكن أن تتبدد أو تضيع فرصة تاريخية، ولو تم الاستعجال بها أو تفجيرها قبل الأوان لكان يمكن أن تذوى أو تبذل وحتى تنتحر أو تُنحر.
يوم 28 كانون الأول (ديسمبر) 2010 كتب الباحث والإعلامي التونسي الدكتور خالد شوكات، بنباهته أولاً وبقراءة دقيقة للواقع ثانيًا أن ما جرى في سيدي بوزيد وغيرها من المدن التونسية هو بطاقة صفراء للنظام. ولم يكن ينطلق في ذلك من مبالغات أو تهويل، بل من واقعية سياسية، كان يتلمسها خلال زيارته لتونس، ناهيكم عن استشراف مستقبلي للأحداث. وقد فوجئ في اليوم التالي وإذا بوزير الإعلام السابق يتصل به معاتبًا بالقول: إنها عبارة غير موفقة أو إنها ليست في محلها.
ربما أراد شوكات أن يخفف بعض الشيء من ارتفاع سورة الغضب، وقد يكون في ذلك تنبيه للمعارضة والسلطة في آن، ولا سيما أن ساعة الرحيل قد حلّت، فتاريخ ما بعد سيدي بوزيد هو غيره ما قبلها، وكان على الجميع أن يدرك ذلك، ولعل ما تعاملت به قوى الأمن مع المتظاهرين والمحتجين في تشييع جنازة بوعزيزي من قسوة، إنما كان بمنزلة التعجيل بإنضاج اللحظة الثورية، ففي أجواء الاحتقان والحزن والرفض تنتقل جذوة الثورة بسرعة خاطفة مثلما تسري النار في كومة القش.
كان شوكات يدرك أن النظام ينتظر البطاقة الحمراء لمجرد وصول الثورة إلى العاصمة في 4 كانون الثاني (يناير) 2011، ولعشرة أيام من الاحتجاج والمجابهة اضطر الرئيس السابق إلى الرحيل.
لقد ذهبت إلى تونس لألقي محاضرة حول "الثورة التونسية والمشروع النهضوي العربي الجديد" بدعوة من مؤسسة صالحة للتنمية والبيئة، وقد قلت في بداية محاضرتي: جئت لأتعلّم لا أعلّم، و"هل يُفتى ومالك في المدينة؟"، وكان بودي أن أستمع شخصيًا إلى آراء الشباب وتطلعاتهم، فقد كانوا بحق جمجمة الثورة وسواعدها وحطبها في الآن، وينبغي اليوم أن يكونوا زهورها وحماة حديقتها، ولعل أهل مكة أدرى بشعابها.
وكان كلامي لا يتعلق بالتفاصيل والحيثيات، لكنه قول في الدلالات والمعاني وليس بوسع المرء ولا سيما الباحث، تقديم مخطط تفصيلي للثورات الناجزة وغير الناجزة، أو إعادة تبويب وأرشفة يوميات الأحداث فتلك مهمة الإعلامي مؤرخ اللحظة، حسب ألبير كامو، كما أن مهمة المؤرخ تتلخص في جمع وقراءة الأحداث وربطها ببعضها، بما قبلها وبعدها، بما فيها الروايات المتباينة. أما مهمة المنشغل بقضايا الفكر فتتلخص بالوصول إلى الحقائق والسمات التي يمكن استخلاصها وبذلك يحدد المعاني والدلالات للحدث. وقد استهدفت من حديثي استكشاف العملية الثورية الجارية، بالتوقف عند مقدماتها والبحث في مساراتها والسعي للتعرّف على حقيقتها وخصائصها، ومن جهة ثانية دراسة التحديات والخيارات الصعبة التي أثارتها إزاء المستقبل، لا سيما التباسات بعض جوانبها وتداخلاتها مع بعض العوامل الخارجية.
لعل الانشغال بالدلالات والمعاني هو غير الاستغراق في التفاصيل والأحداث، فالأول هو الذي يفضي إلى تراكم المعرفة، وهي فرصته أيضًا لقراءة التاريخ بوقائعه وأحداثه ليس ما يجري اليوم فحسب، بل في سياقاته التاريخية إذا جاز التعبير، بتضاريسها ومنعرجاتها، وستكون التفاصيل والوقائع بكل جوانبها في خدمة المعرفة وبكل فروعها، ولا سيما في ظل انفتاح العالم اليوم وتكنولوجيا المعلومات والاتصالات والمواصلات الحديثة.
من كان يتصور أن يبتدئ نهاره في تونس دون أن تقع عيناه على صورة بن علي، سواءً عبر التلفاز أو في صحيفة أو إعلان أو ملصق في الشارع أو غير ذلك، وإذا به يرحل في غضون أيام معدودات، ليس كما يغادر الناس العاديون مواقعهم الوظيفية أو يتقاعدون، بل غادر مكرهًا مع إشارات بالأصابع والأيادي والصوت والصورة إلى المنفى دون عودة.
كلمة واحدة هي التي أطاحت به "ارحل" هكذا صحونا دون بن علي، ولعل الحدث كان أقرب إلى الكومتراجيديا، فبقدر كونه مفرحًا بإفراط، فإنه مؤلم إلى حدود كبيرة أيضًا، ففي العالم المتحضر حين يرحل الرئيس عبر صندوق الاقتراع أو حين تنتهي فترة ولايته، يتم ذلك باحتفال رسمي، بتسليم وتسلّم المسؤولية.
أتذكّر قولاً أثيرًا للفقيه الدستوري الدكتور يحيى الجمل قبل ربع قرن حين قال لي: نريد رؤساء سابقين، يمشون في الشارع ويقودون سياراتهم ويتبضّعون ويعيشون مثلما يعيش الناس جميعًا في العالم المتقدم، فعسى أن نرى ذلك في جمهورية الياسمين وبحر الزيتون مستقبلاً!!