شوارع متَّسخة ومساكن نظيفة

وصلتني رسالة بالبريد الإلكتروني تقدم تلخيصاً لكتاب بعنوان: ''العرب من وجهة نظر يابانية''، للكاتب الياباني ''نوبواكي نوتوهارا'' الذي عاش فترة من حياته في بعض الدول العربية. وقد لفت نظري في طرحه موضوعان، الأول: يتعلق بأن العرب ينشغلون بفكرة النمط الواحد؛ لذا يحاول الناس توحيد شكل ملابسهم ومساكنهم وأفكارهم وغير ذلك، وسوف أُؤَجّل الكتابة عن ظاهرة المساكن المتشابهة إلى مقالة قادمة – إن شاء الله، أما الموضوع الآخر فيتعلق بغياب الوعي لدى العرب بالمسؤولية تجاه الممتلكات العامة مثل: الشوارع والحدائق والمباني الحكومية ووسائل النقل العام وغيرها، وتعرضها للإهمال في النظافة والتخريب وحتى النهب، على عكس عناية الناس بممتلكاتهم الخاصة ومساكنهم، وقد تداعى إلى ذهني كثير من الصور التي تؤكد هذه الحقيقة (مثل: ظاهرة الكتابة على الجدران وتشويهها، وفتح زجاج السيارات ورمي المخلفات في الشارع للحفاظ على نظافة السيارة، والقفز على الأرصفة بالسيارات والسير عليها وتكسيرها من أجل الوصول إلى أول الصف، وإلقاء النفايات المنزلية في قارعة الطريق وعدم العناية بوضعها في أكياس النفايات ورميها في الحاويات المخصصة لها)، وغيرها كثير من الصور المشاهدة في مجتمعنا.
كما تذكرت أيضاً وبوضوح تجربتين حدثتا لي خلال رحلاتي تؤكدان ظاهرة غياب الوعي العربي بالمسؤولية تجاه المناطق العامة أو المشتركة، فاسمحوا لي أن أعرضهما عليكم عسى أن تجدوا فيها شيئاً من المتعة والتسلية. أما التجربة أو القصة الأولى فحدثت قبل قرابة خمسة عشر عاماً، حين طلبت من أحد الزملاء السوريين ترتيب رحلة لزيارة دمشق مع الأسرة، وطلبت منه أن يحجز لي شقة فندقية، فأخبرني بأنه لا توجد في دمشق شقق فندقية (طبعاً في تلك الأيام)، ولكنه سيحجز لي شقة سياحية بأفضل المواصفات، فوافقت معتقداً أن الموضوع لا يعدو كونها مسألة اختلاف في التسميات وسأحصل على شقة مفروشة مثل الموجود لدينا. ولكن عندما توقف السائق الذي استقبلنا في المطار وأخبرني بأن ننزل لأننا قد وصلنا إلى الشقة صدمت بقدم المبنى وشكله المتهالك من الخارج، وبدأت أشعر بشيء من الاكتئاب والاشمئزاز عندما دخلت العمارة وشاهدت السلالم المتهالكة ودهانات الجدران الباهتة والمتقشرة. وأعتقد أن السائق لاحظ ذلك فبادر بالقول: ''بتعجبك الشقة''، وبالفعل كانت المفاجأة عندما لاحظت جودة باب الشقة ونقوشه الرائعة، وازدادت دهشتي عندما دخلنا الشقة وشاهدت رخام الأرضيات والدهانات المعتقة والديكورات الجبسية والمكيفات المفصولة والأثاث الفاخر والمريح. فالفرق بين جودة المبنى من الخارج وفراغات المدخل والأدراج المشتركة بين السكان ونظافتها وبين الشقة من الداخل شاسع ويصعب تخيله لمن لم يره.
أما القصة أو التجربة الثانية فحدثت لي في مدينة طنجة المغربية، حيث اتفقت مع سائق سيارة أجرة ليطوف بي في نواحي المدينة وضواحيها ويطلعني على أهم المعالم على أن أدفع له مقابل ذلك بالساعة. ومن حسن حظي أن السائق كان شاباً جامعياً حديث التخرج ذا ثقافة جيدة ومعرفة واسعة بأحوال المجتمع المغربي، فتشعب الحديث بيننا في كثير من المواضيع، وقد أنست بحديثه وصحبته، ورغبة مني في أن يطول برنامج الزيارة معه دعوته إلى تناول الغداء، فاعتذر بأنه لا يستسيغ أكل المطاعم، إما لعدم نظافتها أو لارتفاع أسعارها وتدني جودة الطعام فيها. ورغبة مني في أن أستكمل برنامج الزيارة بقية اليوم معه، اقترحت عليه شراء بعض الفواكه وإكمال برنامج الزيارة، فوافق ودعاني إلى تناول الفواكه في منزله، فوجدت في دعوته فرصة سانحة لإضافة زيارة مسكن مغربي من الداخل إلى البرنامج. ولكن عندما وصلنا إلى حارته الشعبية وترجلنا من السيارة، وسرنا في الشوارع الضيقة والمتربة وغير النظيفة ندمت على قبول دعوته. ولكن ما إن دخلت البيت حتى تغير المنظر بشكل كامل فالترتيب والنظافة تشع من كل ركن، فالبيت منسق ببساطة وجمال، والأثاث مريح ومرتب بشكل استثنائي. فتحول- بحمد الله- امتعاضي إلى سرور ورضا، وأكرمني مضيفي فوق ذلك بوجبة غداء ''طاجين'' مغربية ساخنة ولذيذة.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي