أجهزتنا الحكومية.. وضرورة التدريب
إن اهتمام الدول المتقدمة بالتدريب الإداري وتوجهها إليه لم يكن من ترف أو فراغ بل كان من حاجة واقعية فرضت نفسها، وضرورة تنظيمية دعت إليه التحولات والتغيرات المتسارعة، فلم تعد وسائل وأدوات القرن العشرين متسقة ومتناسبة مع تقنيات وتطورات القرن الحادي والعشرين، وسرعة التطورات المتدفقة فرضت وبقوة على تلك الدول وغيرها ممن تحاول النهوض والتقدم والمواكبة والمنافسة أن تعتمد وسائل وأدوات أكثر كفاءة وأكثر إنجازا وكان على رأس هذه التحولات المختلفة هو التطوير والمنافسة من خلال العنصر البشري نفسه، تعليما وتطويرا وتدريباً.
والتدريب أو ما بات يعرف بتنمية الموارد البشرية يهدف فيما يهدف إلى زيادة المعارف والمهارات والقدرات للموظف للعمل الحالي أو المستقبلي في جميع المستويات والمجالات، فهو يعمل على تزويد المتدربين بالمعلومات والمهارات والأساليب المختلفة المتجددة والمتطورة عن طبيعة أعمالهم الموكلة إليهم وتحسين وتطوير مهاراتهم وقدراتهم، ومحاولة تغيير سلوكهم واتجاههم بشكل إيجابي، وبالتالي رفع مستوى الأداء والكفاءة الإنتاجية في مؤسساتهم.
إن التدريب المستمر والممنهج يدفع بالمنظمات إلى تحسين الأداء وتميز في الإنجاز، وكلما زاد الاهتمام بالتدريب من قبل رأس الهرم في المنظمة زاد الاهتمام به في القاعدة، وهذا يساعد على دفع المخصصات المالية الخاصة بالتدريب فيما خصصت له، بل والحث على طلب المزيد من خلال طلب تدعيم بند التدريب. وهذا هو المأمول للدفع بالتنمية البشرية في مساراتها الصحية، حتى تسهم في تحقيق أهداف المنظمة، وتساعد على تسريع الإجراءات وتحسين والإنجاز وتجويده.
إن واقعنا الإداري اليوم يحتم علينا تكثيف الجهود باتجاه التدريب الممنهج والمستمر، والسعي الجاد للتطوير وإكساب المهارات والمعارف من خلاله فهو الخيار الذي ما منه فرار، والمخرج الوحيد للخروج من دوائر البيروقراطية والنرجسية إلى ساح الشفافية والإنجاز ولا سيما في مؤسساتنا الحكومية التي تعاني هذه الأمراض المزمنة التي تأخرنا بسببها كثيرا، وخسرنا من جرائها الكثير من المكاسب والإنجازات التي كان ممكنا أن تكون.
لسنا بحاجة إلى تكرار الحديث عن واقعنا الإداري ومعاناته في دوائرنا الحكومية حتى نبرز مدى الحاجة والأهمية للتدريب، فربما لمسنا ذلك جميعا، وأحسسنا به في هذا الجهاز أو ذاك، لكن أن تشخص هذه المشكلة من قبل من هو على رأس الهرم التدريبي الحكومي في المملكة معالي الدكتور عبد الرحمن الشقاوي، وتبدو الأزمة بتلك الصورة، والفجوة بذاك الحجم فإن ذلك ما لم يكن متوقعا بهذا المستوى.. حيث تحدث معاليه في الملتقى الإداري لموظفي جامعة الملك سعود. قائلاً: (إن البيروقراطية المقيتة بمفهومها السلبي هي التعقيدات التي تحصل وتفرض على العمل بحيث يعوق ما يفترض إنجازه في يوم وتمديده إلى تعقيده وتطويله لينجز في بعض الأحيان في أسبوع أو شهر، مشيرا: إلى أن إعادة 90 مليار ريال إلى ميزانية الدولة لعدم قدرة بعض الجهات على إنجاز الأعمال المنوطة بها، كما أشار إلى وجود ستة آلاف مشروع متعثر، كل ذلك دليل على أن العنصر البشري لم يصل بعد إلى مستوى القدرة على الأداء والإنجاز والالتزام بالمهام المسندة له، ومؤشر على عدم وجود الانتماء الكافي، كي يكون الحرص شديداً على أداء المنظومة.
ولم يكتف بتلك الأرقام المذهلة، بل ذكر أن العديد من الجهات الحكومية تعاني عدم وجود خطة شاملة تتصف بالموضوعية والدقة، وتتضمن تحديداً دقيقاً لحاجات الجهات الحكومية التدريبية وإن كان هناك من خطط تدريبية فهي تتسم بالضعف في تحديد دقيق للحاجات التدربية على الرغم من وجود الأموال في القطاعات الحكومية، إلا أن فرص التدريب للموظفين لا تزال غير جيدة.
وليته وقف عند هذا الجرح الغائر، واكتفى.. لكنه أضاف ـــ وفقه الله ـــ ... ''وأصبحت المخصصات المالية تحول إلى مكافأة خارج الدوام، ويترك التعليم والتدريب من دون اهتمام''. وكما أسف هو (أسفنا نحن معه) حيث يؤكد: عدم وجود نماذج خاصة بالعائد من التدريب لأننا ما زلنا لم نخط في الاستثمار في الموارد البشرية، وأن عدداً من الجهات الحكومية لا تلقي بالاً للموظف عند عودته من التكليف في أحد البرامج التدريبية، لمعرفة مدى الاستفادة التي حققها ومراقبة أدائه، كما لا توجد دقة في اختيار المتدربين، مؤكداً ذلك من أسباب بطء النشاط الحكومي الذي يعاني التعقيد والبيروقراطية في تعطيل المعاملات.
أما منهم في قمة الهرم أو من هم يخططون مثل الوكلاء والقيادات الإدارية الوسطى في الجهات الحكومية فهم كما قال معاليه لا يستفيدون من الحلقات العليا المخصصة لهم في التدريب، وأصبح من المعيب لديهم المشاركة في هذه الدورات، لأنهم يعتقدون أنهم وصلوا إلى منتهى العلم، وهذه من نقاط الضعف التي نأمل إزالتها.)... انتهي كلامه.
أننا لا نختلف في أن التدريب هو عمود التطوير وهو معول البناء في أي تنظيم، فدونه لا يمكن لنا الاستمرار إلا إلى الخلف. ودون تحديد الاحتياجات التدريبية وتصميم البرامج التدريبية وتنفيذها وقياس أثرها وأخيرا تقديم التغذية الراجعة لتطوير أدائها لا يمكن أن نحقق الفائدة من التدريب. بل سيكون ترفيهيا كما هو حاصل الآن، وهو ما أسميه التدريب الصيفي أو التدريب الترفيهي أو التدريب السياحي.
انظر إلى التدريب في الجهات الحكومية وما معاييره فنجدها مبنية على رغبة الفرد وليس المؤسسة والوظيفة، فهو الذي يختار البلد والدورة التدريبية والوقت. فتكثر دورات الشرق في الصيف والأعياد، ولا تنسى دورات المغرب الشقيق! حيث يعود المتدرب من الدورة بشهادة إتمام لها وقد يكون ممن لم يحضرها قط وهذا ممارس وموجود ومعروف.
والمشكلة أن الدورات تنشط خارجيا دون المرور الداخلي للدورات وهو دليل على أن الهدف منها ليس تنمية المهارات بل تنمية الرحلات وهو ما ينعكس سلبيا على الأداء ويكلف خسائر مالية دون عائد على التدريب.
فالتدريب دون تحديد دقيق وواضح للاحتياجات ودون قياس للعائد منه يعد تدريب دون هدف وهدرا ماليا وزمنيا، فقياس أثره على العملية الوظيفية ينمي العائد ويحمي مهنة التدريب من المتطفلين على التدريب وأهله، والمنظمات من الهدر المالي والزمني... دمتم سالمين.