المصريون الجدد والتوجه جنوبا
توقفت مليا عند زيارة رئيس الوزراء المصري الدكتور عصام شرف إلى السودان في 29 آذار (مارس) 2011 وبمعيته وفد وزاري كبير، حيث تم التوقيع على عدد من الاتفاقيات والبروتوكولات المشتركة في مجال الأمن الغذائي والاستثمارات والاتفاق على عودة بعثة جامعة القاهرة إلى الخرطوم. واتجه الوفد المصري نفسه إلى مدينة جوبا عاصمة دولة الجنوب الوليدة، ربما للاستكشاف والتعبير عن حسن النوايا. إنها البداية الصحيحة لإعادة الاعتبار للدور المصري الذي ظل مغيبا على مدى 30 عاما. وعليه يصبح السؤال المهم متعلقا بضرورة تبني منظور جديد يحكم التوجه المصري الجديد صوب السودان وإفريقيا. وهذا ما سنحاول بلورته والإشارة إلى بعض مكوناته في هذا المقال.
ما الذي حدث خطأ؟
على الرغم من إيمان مصر الناصرية بأهمية ومحورية ارتباطها بمحيطها الإفريقي حتى أضحت إفريقيا إحدى دوائر ثلاث مع العربية والإسلامية تدور في فلكها سياسة مصر الخارجية، فإن هذا التوجه الإفريقي سرعان ما عانى تقلبات السياسة وتحولات الإيديولوجية. فقد ركزت السياسة المصرية في عهد الرئيس الراحل أنور السادات على الارتماء في أحضان الغرب، ولا سيما الولايات المتحدة؛ لتأمين العلاقات السلمية بين مصر وإسرائيل. وازدادت عزلة مصر وعزوفها عن القيام بدور فاعل في إفريقيا في ظل حكم الرئيس المخلوع حسني مبارك.
ولعل السمة الأبرز للسياسة المصرية على مدى العقود الثلاثة الماضية أنها كانت سكونية لا تميل إلى تغيير الوضع القائم، مع الحرص على عدم إثارة غضب كل من الولايات المتحدة وإسرائيل. وتذكر بعض الروايات الموثقة أن الرئيس السوداني عمر البشير بعد تطبيع العلاقات مع مصر وقيامه بزيارة القاهرة عام 2004 عرض على الرئيس مبارك القيام بزراعة القمح في السودان إلا أن الأخير اعتذر بشيء من الاستهزاء قائلا: "إنه لا يريد أن يغضب الأمريكان".
وعلى أية حال، نستطيع أن نشير إلى عدد من الملاحظات الأساسية التي تحتاج إلى مراجعة وتقويم عند إعادة صياغة سياسة مصر الجديدة تجاه إفريقيا، وذلك على النحو التالي:
أولا: الصور الذهنية والقوالب الجامدة التي تميز الإدراك المتبادل بين مصر من جهة والأفارقة من جهة أخرى. إنه - مع الأسف الشديد - قد تم ترسيخ مجموعة من الصور السلبية وربما يتم تداولها وتكريسها إعلاميا وفي الممارسات اليومية الحياتية ولو من دون قصد. ويمكن أن نشير على سبيل المثال إلى تصوير الإفريقي في وسائل الإعلام بأنه لا يمكن أن يقوم بوظيفة غير تلك الخاصة بحراسة الأبنية والعقارات (البواب). وأذكر أن ناديا مصريا شهيرا لكرة القدم حقق الفوز على أحد الأندية الإفريقية في القاهرة فخرجت صحيفة مصرية بعنوان بارز مفاده "إن الفراعنة قد حققوا الفوز على العبيد". وفي المقابل، فإن هناك صورا سلبية عن المصريين في إفريقيا تساوي بين المصري والعربي الأجنبي، أو أنها ترى في مصر دولة مهيمنة تريد أن تنهب ثروات إفريقيا، ولا سيما في مياه النيل.
إن هذه الصور والنماذج السائدة تحتاج إلى تصحيح ومواجهة بدلا من أن نضع رؤوسنا في الرمال ونكرر الأخطاء نفسها فتكون النتيجة على غير المأمول والمتوقع. وأحسب أن المكون الثقافي الذي يعتمد على الفهم المتبادل يمثل مدخلا لتأسيس علاقة مصرية جديدة مع إفريقيا.
ثانيا: المنظور الأمني في التعامل مع قضايا السودان وإفريقيا. ولعله من اللافت للنظر أن ملف السودان تحديدا كان يقع تحت إدارة المخابرات العامة المصرية وليس وزارة الخارجية. ولعل ذلك يعكس إعلاء الأمني على السياسي والاستراتيجي في توجهات مصر الخارجية. وتجدر الإشارة إلى أن إطلاق يد الأمن المصري في إدارة واتخاذ القرارات المتعلقة بالدور المصري في إفريقيا، ولا سيما منذ عام 1995 حينما تعرض الرئيس مبارك لمحاولة اغتيال في أديس أبابا يمثل أحد أسباب تقويض الدور المصري الفاعل في القارة الإفريقية عموما وفي السودان على وجه التحديد.
ولقد كان السؤال الذي يطرحه الأفارقة دوما هو: أسباب عزوف مبارك وأركان نظامه عن المشاركة في الفعاليات الإفريقية المهمة؟ فهل يعقل مثلا أن يغيب الرئيس المصري عن أول قمة للاتحاد الإفريقي في مدينة ديربان في جنوب إفريقيا عام 2002؟! ومن جهة أخرى فإن تنفيذ برامج التكامل السوداني بعد تفعليها في أواخر عهد النظام البائد في مصر لم يكتب لها النجاح نظرا للتحفظات الأمنية المصرية على بعض بنودها مثل حرية انتقال الأشخاص ورؤوس الأموال. فالتحفظ المصري دوما كان يتمثل في الخوف من هجرة السودانيين إلى إسرائيل عبر الأراضي المصرية.
ثالثا: غياب الرؤية الاستراتيجية التي تعتمد على التخطيط السليم واستخدام قوة مصر الناعمة لتحقيق أهدافها ومصالحها على المدى البعيد. وإذا نظرنا إلى العلاقة السودانية - المصرية على الرغم من أهميتها بالنسبة للطرفين، فإنها منذ عام 1956 افتقدت هذا المنظور واعتمدت على بعض الاتفاقيات والبروتوكولات التي كانت مجرد حبر على ورق. ففي عهد الديمقراطية الثالثة في السودان قام الصادق المهدي بإلغاء اتفاقية الدفاع المشترك والتكامل بين البلدين وطرح عوضا عن ذلك إطارا هزيلا أطلق عليه اسم ميثاق الإخاء.
وظهرت قضية حلايب عام 1992 لتمثل أحد مظاهر التوتر في العلاقة السودانية - المصرية، التي ازدادت تأزما بعد عام 1995 حينما اتهمت السودان بالوقوف وراء محاولة اغتيال مبارك الفاشلة في إثيوبيا. ولم يقف العجز المصري عند حدود السودان، الذي فقد ثلث مساحته وربع سكانه بعد انفصال جنوبه، لكنه شمل أيضا دول منابع النيل التي تمردت على مصر وأقرت مجتمعة اتفاقا جديدا يعيد تقسيم المياه وفقا للأسس جديدة قد تضر بالأمن المائي المصري.
مرتكزات التحرك الجديد
يمكن القول إن المؤشرات الأولية التي ميزت التحرك المصري تجاه السودان وإفريقيا بعد ثورة 25 يناير المصرية تبشر بعودة "المصريون الجدد" للقيام بدور فاعل في محيطهم الإفريقي الاستراتيجي. وتجدر الإشارة في هذا السياق إلى عدد من المرتكزات المهمة للدور المصري الجديد في إفريقيا:
1- إعادة هيكلة وتنظيم مؤسسات صنع القرار المصرية المتعلقة بإفريقيا، وأحسب أن خطوة وزير الخارجية السفير نبيل العربي باستحداث منصب نائب الوزير للشؤون الإفريقية، وكذلك منصب مساعد الوزير لشؤون السودان تصب في هذا الاتجاه. وإن كنا نرى أن ذلك غير كاف؛ إذ يتعين على مصر الثورة إلغاء وزارة التعاون الدولي التي تتولى جمع المساعدات والمنح الخارجية، فالدول القوية تبني استراتيجيتها للاكتفاء الذاتي والاعتماد على النفس، وعليه يصبح من المنطقي تأسيس وزارة جديدة أو هيئة عليا للشؤون الإفريقية تكون تابعة لأعلى سلطة في الدولة المصرية. ولعل ذلك يعيد الاعتبار مرة أخرى للسياسة الإفريقية لمصر. ويرتبط بذلك أيضا مجموعة من الأدوات والسياسات مثل إعادة النظر في مؤهلات وكفاءات البعثات الدبلوماسية في إفريقيا وكذلك أدوات التعاون والتبادل الثقافي بين مصر والدول الإفريقية.
2- تأسيس شراكة استراتيجية بين مصر وإفريقيا؛ إذ يلاحظ أن القوى الدولية الصاعدة في النظام الدولي مثل الصين والهند والبرازيل، حتى الدول الإقليمية الكبرى مثل تركيا وإيران وإسرائيل تتدافع جميعها على إفريقيا وتؤسس لعلاقات استراتيجية كبرى مع الدول الإفريقية. وغابت مصر أو بالأحرى غُيبت عن هذه التفاعلات الدولية في إفريقيا، بحيث أصبح دورها هامشيا. ولا شك أن مصر تمتلك مخزونا تاريخيا وحضاريا يضيف إلى أدوات قوتها الناعمة خصوصية تفتقدها الأطراف الدولية الأخرى. وعليه فإن على مصر في هذه المرحلة التأسيسية أن تدخل في حوار استراتيجي مع القوى والتكتلات الإقليمية الكبرى في إفريقيا وربما يكون من الأنسب أن يتم ذلك الحوار عبر بوابة السودان بشطريه الشمالي والجنوبي. فالسودان لمصر هو العضد والسند، كما أن مصر للسودان هي الناصر والمعين.
3- تحقيق الأمن الغذائي وتأمين مياه النيل. من المعلوم أن سلاح الغذاء يمثل إحدى أدوات الحرب الاقتصادية، وهو يمثل أداة للضغط والإذلال في الدول المستوردة للغذاء. ومن ثم لا يمكن لمصر القيام بدور فاعل إقليميا دون تحقيق الاكتفاء الذاتي من الغذاء ولو عن طريق السودان الذي تمتلك مساحات شاسعة قابلة للاستزراع. وعليه، فإن الاتفاق المصري - السوداني على زراعة نحو 150 ألف فدان من الأراضي السودانية قمحا بالتعاون مع البرازيل يمثل خطوة في الاتجاه الصحيح. ويبقى بعد ذلك ضرورة التفاوض من أجل استئناف العمل في مشروع قناة جونقلي السودانية التي يمكن في حال إنهائها أن توفر لمصر نحو خمسة مليارات مترمكعب من المياه سنويا، وعلى أية حال، فإن قضية المياه والغذاء تعد ذات أهمية محورية في تحقيق الأمن القومي المصري.
الطريق إلى المستقبل
إن على مصر الجديدة أن تؤسس لمرحلة جديدة شعارها التوجه جنوبا لإحياء الدور الإقليمي لمصر. وأحسب أنه يمكن طرح مشروع التعاون الاستراتيجي بين مصر والسودان من منظور جديد؛ وذلك لمواجهة التحديات الإقليمية والدولية المشتركة. فثمة تحديات أمنية تعانيها مصر في ظل المرحلة الانتقالية، كما أن السودان يمر هو نفسه بمرحلة انتقالية تمهد لوجود دولتين، إحداهما شمالية والأخرى جنوبية، ويبرز التحدي الأمني ليكون العنوان الأبرز لشطري السودان.. فهل يمكن طرح رؤية تكاملية جديدة تعتمد على الحل الكونفيدرالي بين مصر وشمال السودان؟ إن مثل هذه العلاقة الاتحادية الهشة تبقي على آمال وحدة وادي النيل حية في وجدان أهل السودان ومصر وتدفع بهم إلى مواجهة التحديات بقوة وإرادة واحدة.