رعب الدولة!
والآن.. عند التلفزيون، تجلس في المساء متابعا ما يجري في عالمنا..
ماذا ترى؟ إنه المشهد المسيطر (الذي يرفع الضغط)، مشاهد الدم، الجرحى، القتلى، مواكب المشيعين، مشردين يبحثون عن الملاذات الآمنة، وهناك الأبطال الذين ينتظرون نحبهم، وهناك السياسيون والمعلقون والمروجون والمرجفون، إنه عالم تختلط فيه التجربة الإنسانية بكل أبعادها.
العالم العربي الآن سيد اللحظة فضائيا، الأنظمة التي قامت على ميراث الدم والعنف تقول لها الناس (الشباب) بصوت واحد: (ارحل)! إنه الجيل الذي نشأ مع الأنظمة وبعيدا عنها، لأنها الآخر المخيف المرعب!! يثور في الشارع ويتحالف مع الغضب ليطرد الذات المعذبة، لا قيادات سياسية تقوده وتوجهه، فقد ألغت دولة الحزب الواحد القيادات التاريخية، والشباب بلا قيادات لأن البيئة الحاضنة لا مجال فيها لنمو القيادات.. وهذه الآن هي الأزمة التي تقع فيها الأنظمة التى اقتنعت أخيرا بالخلاص والتغيير، ولكن لا أحد يقود الشباب الثائر.
ماذا نتوقع من جيل وُلد في بيئة تقول له: ما حولك مخيف، خطر، عيون الدولة وآذانها حاضرة، تحاصر مَن يريدون أن يتنفسوا قليلا من الحرية، وشيئا من الإحساس بالشعور الإنساني الطبيعي.
نشأ الجيل في خطاب يومي يقول له: يا ولدي (انتبه)، (احذر) لا تقل، لا تفعل، والأبناء لا يجدون وظيفة ولا يجدون التعليم الذي يعدهم للحياة، ويعيشون في عالم مفتوح على التجارب الانسانية المشرقة، إنه حصار نفسي واجتماعي يومي!
ماذا ينتظر هؤلاء من هذه التنشئة الاجتماعية والنفسية؟ إنهم مشروع ثائر.. وهذا ما حدث!
في العقود الأربعة الماضية جاءت للسلطة في العالم العربي أنظمة سياسية بوليسية من دون شرعية بناء وتوحيد يتشارك فيها الجميع، يضحون لها وبالتالي يجنون ثمارها. جاءت الأنظمة على ظهر دبابة لكي يسود (الحزب) أو (الطائفة)، وتم اختزال الدولة كلها في: الحزب أو الطائفة!!
وتم إقصاء أكثرية الناس، ولم تتبلور الروح الجامعة، والثقافة السياسية الموحدة ولم تبن الدولة تصورات مرجعية مشتركة توحد الناس وتؤسس لمقومات المواطنة الصالحة التي تعطي الناس الأمل في الحياة، لم تجمعهم وتوحدهم للبناء، وتعدهم لتقلبات الحياة وظروفها الصعبة، لم يتم ذلك لأن (الحكم الصالح الرشيد) غير حاضر، فالدولة تدار من (المخفر)، من مكاتب الحزب الخلفية، التي توجه من خلف الستار مناحي الحياة في الجامعات والمصانع والمصالح الحكومية وفي مكاتب الصحف والإذاعة والتلفزيون.
في زيارة لإحدى الدول العربية التي يحكمها حزب واحد، وبعد جولة في جامعتها الكبيرة كان اللقاء مع مدير الجامعة، وفي المقعد الخلفي لمكتبه كان هناك شخص يجلس في مكتب ملاصق يطل بابه على مكتب مدير الجامعة.. اتضح لاحقا أنه مكتب مسؤول الحزب لمراقبة القرارات النهائية والأساسية للجامعة، أما مدير الجامعة الأكاديمي الكبير فإنه هناك لأجل متطلبات الوجاهة وضرورات الانفتاح.. لذا لا يستغرب ضحالة الإنتاج الأكاديمي للجامعات في هذا البلد العربي العظيم..
لقد أصبحت جامعاته ثانويات مطورة، ومفكروه ومبدعوه في المنفى! وإنتاجه الفكري الأكاديمي اختزله الحزب لتكريس الوهم بتفوقه الأيديولوجي الذي أوجد في المحصلة النهائية جيلا ثائرا عليه وعلى عقيدته السياسية الإقصائية القمعية.
هذا المشهد العربي المؤلم هو نتاج روح الدولة القمعية المرعبة التي قامت على الإقصاء والفرز مستخدمة كل آليات الإرهاب البدني والنفسي، لم تقم على (الرحمة) وجمع القلوب وتأليفها وترك الماضي للتاريخ. لم تفعل ذلك لأن مشروعها اختزلته الدولة للثورة أو للحزب، لم تقم الدولة لتحقيق مشروع للمستقبل، لو كانت بهذه الروح لما انتهت إلى الطرد المؤسف عبر ثورة ثمنها الغالي دماء أبناء الشعب الواحد ودماء رفاق الكفاح والسلاح وثمنها أيضا الدمار والخراب للثروات الوطنية.
هذا المشهد مرة أخرى يعطينا الفرصة للتأمل العميق في المشروع الكبير الذي قاده الملك عبد العزيز لتوحيد المملكة. لقد كان المؤسس العظيم، رحمه الله، منذ خطواته الأولى في مشروع الوحدة يضع المستقبل البعيد هدفه، يومئذ كان يحلم أن يتجاوز حدود الرياض، والزعماء الذين يحلمون بالمشاريع الكبيرة يتسامون فوق الذات ويكونون أقرب إلى الناس والواقع لأن لديهم مشروع بناء، ومَن لديه الطموحات الكبيرة لن يضيع الوقت خلف الأمور الصغيرة ولن يصرف الجهد في ملاحقة الناس وبناء (الملفات)، المهم أن تصدق النيات، والحياة ميدان التجربة المفتوح لكشف النوايا والمواقف.. هكذا كان المؤسس العظيم.
في كل مشواره كانت الناس تلتف حوله، من يحاربه اليوم يمضي معه غدا، فقد كان الملك عبد العزيز يقدم بالمواقف والشواهد أنه يجمع الناس ولا يفرقهم، من خانوه وغدروا به صفح عنهم مرة ومرتين، وكان يعاقب عندما تكون هيبة السلطة ومشروع التوحيد في خطر، فهنا تأتي اعتبارات الحكم وحس الزعامة والقيادة، أما الصفح والعفو فكان هو المبدأ عند المقدرة، كما هو الحلم حين الغضب.
الملك المؤسس انتهى به مشوار التوحيد جامعا في جيوشه وبين قادته أغلب من خاصموه وحاربوه، وهذا ما قصده تقريبا الأمير سلمان بن عبد العزيز في محاضرته في الجامعة الإسلامية أخيرا عندما ذكر أن أغلب مواطني بلادنا اليوم كان لأجدادهم النصيب المهم في مشروع الوحدة، أي أنهم ساهموا في البناء، وهذه رسالة مهمة نتمنى أن تستوعبها الأجيال الجديدة، فبلادنا لم تقم وحدتها واستقرارها بثمن يسير، بل قامت بمسيرة طويلة من التضحيات التي تشارك فيها الجميع.
ألا يحق لنا أن نخاف ونقلق على استقرارنا ونحن نرى هذا العالم المضطرب؟