الخروج عن النص
في حياتنا نلاحظ الكثير ممن تسير إيقاعات أيامهم على وتيرة واحدة رتيبة، وفي ضوء هذا الواقع البليد الذي يعيشونه بصورة متواصلة يفقدون حماسهم، وتصدأ أحاسيسهم، فيصابون بالكآبة المقنعة، وينتابهم نوع من العجز النفسي الذي يكبل تحركاتهم ويصبغها بشيء من العجز والدونية، فمع أنهم يسبحون في تيار الحياة، إلا أن ذلك يحدث دون إرادتهم، وكأن الأمواج تتقاذفهم دون مقاومة، ويمكنك أن تلمس ذلك من عباراتهم التي تتلفظها ألسنتهم: «ما أسوأ الأيام وهي تمشي بنفس الوتيرة»، «كل ما حولي يبدو مملا»، «لا أشعر بالمتعة في أي شيء»، وعلى الرغم من كل وسائل الترفيه التي يمتلكونها، والأماكن التي يزورونها، والمناسبات التي يرتادونها إلا أنهم مع ذلك يفتقدون ذلك الشعور بالبهجة الحقيقية في داخل النفس.
تشخيص الحالة هو عدم الخروج عن النص والتمتع ببعض الاستقلالية في الأفكار والممارسات، وهذه نقطة ضعف في الشخصية تتراكم مسبباتها منذ الصغر، فحين نكبر ونبدأ في النمو وشق طريقنا في الحياة يشجعنا من حولنا على التصرف بالطريقة التي يمارسها الآخرون، ما يؤدي شيئا فشيئا إلى التخلي تدريجيا عن التفرد في اتخاذ القرارات والخيارات، وهذا ما يفقد المرء الشعور بنكهة الحياة لعجزه عن استثمار سماته المتفردة في شخصيته، التي يعتبرها عالم النفس الشهير «ألفريد أدلر» جزءا حيويا في بناء أسلوب الحياة السعيدة.
إن مصطلح «أسلوب الحياة السعيدة» قد طرأ عليه الكثير من التشويه والتحريف لمعناه الأصلي، وأصبح مرتبطا الآن بكمية الأشياء التي نشتريها والمتوافقة مع توقعات الآخرين عن الأشياء التي تنقصنا حتى نشعر بالسعادة، ولكن هل يقدر هذا الأسلوب القائم على مذهب المبادئ الاستهلاكية أن يحقق لنا السعادة؟
يقع العديد منا في مصيدة الحياة المعلبة بسبب الحصار المحكم المفروض علينا، فأينما تلفت تقابلك المئات من الدعايات الملونة، والإعلانات البراقة، والكتيبات الدعائية، التي تعدك جميعها بأن تحقق لك حلم السعادة في حال اقتنائها، وما أن نقتني شيئا حتى يصيبنا النفور منه سريعا، ونقلب له ظهورنا بحثا عن شيء آخر ثم نجد منتجا جديدا، فيتجدد شعورنا بالتوق لامتلاكه ظنا بأنه يمتلك مصباح علاء الدين الذي سيخرج منه ذلك المارد، ويحضر لنا الحياة الطيبة، وتتكرر الحكاية مع تجدد الأيام والإعلانات، ونصبح بهذا أسرى مطاردة تلك المنتجات والأشياء، ويبدو أن الإفراط في ذلك يقلب الأمور على أعقابها، ولكننا لا نلام في انطلاء الخدعة علينا في كل مرة، لأن مبتكري أساليب الحياة المعلبة قد نجحوا في صناعة الخيال الجذاب المحرك لدوافعنا الشرائية، فنحن نرى عارضات الأزياء والفتيات اللاتي يقدمن العروض التلفزيونية، وهن يبتسمن بثقة، ويمرحن بسعادة ويعشن في منازل رائعة، ومفروشات باذخة بسبب استعمالهن لتلك المنتجات، وتكون الرسالة هنا هي أن أساليب حياتهن المعلبة ذات جدوى، ولذلك فعندما لا تجدي أساليبهن معنا فنحن نشك في أنفسنا، وليس في الأساليب.
ولهذا، فإن المشكلة الرئيسية التي يعانيها الأغلبية ممن اجتهدوا في حياتهم العملية هي أنهم بعد بلوغهم لنقطة معينة في منتصف العمر توقفوا ليتساءلوا: «هل هذا هو كل شيء؟ متى تبدأ المتعة؟»، وتكمن غلطتهم في أنهم لم يطوروا رؤيتهم الخاصة، فيما يتعلق بالنجاح والسعادة، لأنهم يفترضون أنهم بمجرد تبني رأي من حولهم عن السعادة فيمكنهم بذلك أن يصبحوا سعداء، وكأنهم يعتقدون أن في إمكانهم الابتسام لمجرد شرائهم قناع المهرج.