مكافآت ومزايا القطاع العام!
نتحدث عن مشاكل القطاع العام..
ونتحدث عن الواسطة والمحسوبية والفساد..
ولكن لا نتحدث عن جانب مهم للجهاز الحكومي، لا نتحدث عن المزايا والمكافآت التي يفترض أن يحصل عليها رجالات الدولة المخلصون الذين يعملون بنزاهة وخوف من الله - سبحانه وتعالى - ويعملون بضمير مخلص لبلادهم ويقدرون حجم المسؤولية التي وضعت بين أيديهم، ويقسون على أنفسهم لئلا تتعطل المشاريع أو تتأخر مصالح الناس.. والحمد لله أن مثل هؤلاء كثر، بعضهم نعرفهم، وكثير منهم يعملون بصمت خلف مكاتبهم.
هناك من المسؤولين ممن رزقهم الله الحكمة والحلم والإخلاص والجدارة، ولديهم الكفاءة العلمية والمهنية يعملون الساعات الطوال، ويتصدون للمهمات الصعبة ويقاومون الإغراءات ومحاولات الإفساد بكل نزاهة ضمير، ويرفضون تجاوز الأنظمة والتعليمات والقرارات، لأن إحساسهم الوطني يرشدهم إلى أن الدولة يجب أن تحافظ على سلامة مقوماتها الأساسية، ونظريتهم الأخلاقية هي أن الموظف العام عندما يكون في سدة المسؤولية، فإنه يكون في جبهة أو خندق ليقوم بالجهاد الأكبر.. إنهم يضعون الوطن فوق كل اعتبار، هذا شعارهم المقدس!
وهنا يجب أن نقول إن في سيرة كثير من رجالات الدولة مواقف مشرفة لهم ولولي الأمر. إن المسؤولين الذين يضعون مصلحة بلادهم مقدمة على طاعة ولي الأمر هؤلاء يجدون التقدير والاحترام من ولي الأمر بالذات عندما لا يعملون بالقرارات أو التوجيهات التي يرون أنها تضر بالوطن والدولة.. حتى لو أدى ذلك إلى استقالتهم وتخليهم عن المسؤولية. هنا سمو على الذات وهي الأبقى.. ولنا عبرة الآن في العديد من رجالات الدولة الذين خرجوا للتقاعد وهم الآن بيننا يتصدرون المناسبات ويلقون الاحترام والتقدير من الناس والدولة.
وهذا إرث وتقليد مهم في مجتمعنا يجب أن نحافظ عليه ونطوره ليكون في أدبيات الدولة والمجتمع.. ومن إرث الملك المؤسس عبد العزيز ــــ رحمه الله ـــ ما أشار إليه في أكثر من موضع القريبون منه ومستشاروه وهو أن الملك عبد العزيز كان لا يرتاح كثيرا ولا يقرب من يوافقونه الرأي بشكل دائم ولا يعترضون على قراراته.. وكان يرفض ذلك انطلاقا من حسه القيادي الفطري وتجربته السياسية، وربما أدرك - رحمه الله - أن الموافقين دائما لا تتوافر لهم العقلية النقدية التحليلية التي ترى الأمور بأبعادها المختلفة وتقلِّب الأمور بحثا عن المصلحة العامة المستقرة، ومثل هؤلاء لا يخدمون المشاريع الكبرى المُعرَّضة للتحديات والأزمات وأمامها الكثير من الأهداف والتطلعات، وهكذا كان مشروع الملك عبد العزيز عندما كان هدفه ومسعاه الوحدة الكبرى.
نحن الآن في خضم مشاريع كبرى وتحديات رئيسية ولدينا العديد من الأهداف التي نسعى لإنجازها، وفي تجربتنا السابقة مع الجهاز الحكومي وجدنا العديد من المشاريع تتأخر أو لم يتم اكتمال إنجازها، وقد تعودنا أن نقدم (سوء الظن)، ولا نبحث في الأسباب الموضوعية الأخرى ولا ننظر إلى مقومات (الإبداع الوظيفي) وضرورات دعمه وتحفيزه ماديا ومعنويا.
ربما لا نختلف على أن النزاهة والإخلاص أمور روحانية يتقرب بها الإنسان إلى الله ـــ سبحانه وتعالى ــــ ويفترض ألاّ ينتظر عليها مكافأة، فهذه نزعة أخلاقية إنسانية عظيمة قد يصعب تقييمها ماديا والمكافأة عليها، فالمثل والمبادئ لا أحد يجرؤ أن يضع لها ثمنا، لكن (واجبنا) هو أن نشجع الناس عليها، أن نوجد الأسباب والدوافع التي تعينهم وتدفعهم إلى مسار الأخلاقيات السامية حيث يتجردون من ذاتهم ويخلصون في أعمالهم وآرائهم وأقوالهم، ومن هذا مراجعة المميزات والمكافآت.
إن ما هو مقرر في القطاع العام لمكافأة القياديين والموظفين وتحفيزهم قليل بل هو معدوم، فهناك من الموظفين ممن يشرفون على مشاريع كبرى، أو يديرون استثمارات بآلاف الملايين أو يقفون في ثغور البلاد الحساسة، ومع ذلك تجد ما يقره النظام لهم من مكافآت وبدلات لا يستحق خمس الجهد الذي يبذلونه أو يفترض أن يبذلوه. لذا كيف نتوقع العائد الإنتاجي لهؤلاء.. إنهم بشر وعلينا ألاّ نتجاهل الطبيعة البشرية واحتياجاتها الأساسية، والأخذ بهذه الاعتبارات الوظيفية مهم الآن، حيث نشهد توسعا كبيرا في الأعمال الحكومية التي تحتاج إلى شريحة كبيرة من القيادات ذات الكفاءة العالية والمتمرسة.
عندما نقارن مع القطاع الخاص نجد الفارق كبيرا جدا في الرواتب والمميزات في مواقع متقاربة المهام والمسؤوليات.. ولا نستغرب عندما نجد هجرة جديدة من القيادات الحكومية إلى القطاع الخاص الذي تتوسع مشاريعه واستثماراته الكبيرة في الداخل والخارج.. فالجيل الجديد من القيادات المهنية ذات التطلعات الكبيرة في الحياة الاجتماعية.. هؤلاء لن يقبلوا بالوظائف الحكومية بوضعها الحالي، حيث المسؤوليات كبيرة والعوائد قليلة.
الآن، كمثال للتوضيح، ما هي البدلات التي تأخذها القيادات الحكومية مقابل مساهماتها في مجالس الإدارات أو مشاركتها في اللجان؟ في الغالب المكافأة لا تتجاوز الألف ـــ الألفي ريال على كل جلسة، ولو تم تجميع بدلات اللجان والمجالس العديدة في السنة لخرجنا برقم متواضع. كيف نتوقع الإنتاجية في مثل هذا الوضع.. ما هو الجهد والبذل الذي يقابل العائد المادي؟
علينا أن نبحث بجد المكافآت والمميزات في القطاع العام بالذات للمسؤولين الذين نطلب منهم المشاركة في إدارة ومتابعة المشاريع الوطنية الأساسية.. يفترض أن تكون هناك (مميزات مقررة نظاما) حتى نساعدهم ونعينهم على الإخلاص والنزاهة، ولا ننتظر أنهم (يطلبون).. يجب أن ننتقل إلى مستوى جديد في التعامل الوظيفي الحضاري الذي يعزز القيم الأخلاقية ويخدم المصلحة الوطنية العليا لبلادنا، ويستجيب للحاجات الإنسانية لمن يبحثون عن مقومات الحياة الكريمة .. والكريمة فقط.