كوابح المجتمع المدني

على الرغم من التطور الكبير الذي شهده العالم في دور المجتمع المدني، ولا سيما في السنوات الـ 30 ونيّف الماضية، إلاّ أن هناك الكثير من الكوابح التي ما زالت تحدّ من فاعليته، خصوصاً في دول العالم الثالث ومنها بلداننا العربية.
وفي دراسة لمنظمة الاسكوا لتحديد وتقويم دور المجتمع المدني وبعد اجتماعات عديدة لخبراء أسهم فيها كاتب السطور، جرى التأكيد أن المنطقة ليست متساوية في درجة تطور مجتمعاتها المدنية، ارتباطاً مع القيود المفروضة على الحريات الأساسية، بما فيها حرية التعبير والحق في تكوين الجمعيات، وحق الاعتقاد وحق المشاركة، بما فيها تولي الوظائف العليا دون تمييز بسبب الدين أو اللغة أو العرق أو الجنس أو الاتجاه السياسي أو المنشأ الاجتماعي، فضلاً عن درجة قبول أو عدم قبول المجتمع لحق الاختلاف.
يمكن القول أن بعض دول منطقة الاسكوا أقرب إلى استيفاء الشروط العالمية لكيانية المجتمع المدني، بما فيها قبول التعددية السياسية والفكرية والسماح بحق تأسيس الأحزاب والنقابات والجمعيات وإجراء انتخابات دورية، وتأكيد مبادئ المواطنة والمساواة، في حين أن بعضها يخضع كل شيء للدولة وحزبها السياسي الذي تخضع له النقابات والاتحادات المهنية ويحظر فعلياً الترخيص لمؤسسات المجتمع المدني غير الموالية للسلطات الحاكمة ويلاحق منتسبيها إنْ حاولوا إقامة تنظيمات دون الموافقة المسبقة، ويهيمن على الإعلام ويقنن حرية التعبير.
لعل أبرز كوابح المجتمع المدني الناشئ يمكن إجمالها بأن غالبيته الساحقة لا تزال تجمعات نخبوية، وأن دائرة تحركها بعيدة عن فقراء المدن وفقراء الريف من الفئات المعدمة الواسعة، كما أن هناك تداخلاً بين العمل الحكومي السابق لبعض القيادات، وقيادات المجتمع المدني الحالية، أي أن الكثير من القيادات الرسمية أصبحت لاحقاً قيادات للمجتمع المدني، بما فيها قيادات حزبية ورسمية معروفة.
وهناك تداخل بين العمل الديني، السياسي، وبين العمل المدني، حيث إن العمل المدني يتخذ طابعاً دينياً إسلامياً أو مسيحياً أو غيره، ويتم توظيفه لأهداف سياسية، الأمر الذي يضفي عليه مسحة أيديولوجية سواء كانت اشتراكية أو قومية أو دينية، ناهيكم عن عدم قبول الحق في الاختلاف. يضاف إلى ذلك أن المجتمع المدني، ولا سيما المدافع والحقوقي، غير متكافئ لا من حيث القوة أو التمكين مع مجتمعات رجال الأعمال والمنظمات الدينية، ودورها المهيمن والبارز على الكثير من القطاعات الشعبية.
إن هذه الأوضاع تحتاج إلى إعادة نظر بدور وآفاق المجتمع المدني، لا سيما الفضاء الاجتماعي والثقافي والسياسي والاقتصادي والقانوني الذي يعمل فيه، خصوصاً من حيث التنوّع والتعددية، ومن حيث مشاكل الواقع وعقده، وآفاق الحل وسبل المواجهة والتصدّي.
وإلى تاريخه لم يستطع المجتمع المدني في المنطقة العربية فرض إرادته أو رغباته أو تأثيراته على قرارات الدولة، مثلما هو الحال في المجتمعات الأوروبية والغربية عموماً، أو حتى في دول شرق آسيا وفي أمريكا اللاتينية، أي أن قدرة مؤسسات المجتمع المدني في التأثير على الدولة لا تزال ضعيفة ومحدودة جداً، ولذلك فهو بعيد تماماً عن صناعة القرار، ناهيكم عن معرفة آلياته، وإذا استثنينا بعض المؤسسات المستقلة عن الدولة والفاعلة في بعض البلدان العربية مثلما هي مصر والمغرب ولبنان والبحرين والكويت، فإن غالبية المنظمات في الأقطار العربية غير قادرة أن تلعب هذا الدور لضعفها وخضوع غالبيتها أو بعض مؤسساتها للدولة أو لجهات سياسية أو دينية.
ولا تزال منظمات المجتمع المدني تعاني عدم وجود تنسيق وتعاون بين بعضها، بما فيها عدم وجود ميثاق شرف أخلاقي وقانوني ينطوي على مبادئ أساسية تقدّمها الأطراف الذي تتبنّى مثل هذا المشروع، ولا سيما أن هذه المبادئ والقيم أصبح لها صفة عالمية، تكاد تكون إجماعية، وخصوصاً فيما يتعلق بالشفافية والانفتاح الصريح عن المجتمع وعلى جميع الشركاء والأهداف والمنتفعين ومصادر التمويل، وكذلك آليات الرقابة والمتابعة والمساءلة.
ومن المشكلات التي تواجه مؤسسات المجتمع المدني وخاصة في العالم الثالث بما فيها البلدان العربية، هو الضعف المؤسسي للمجتمع المدني بسبب غياب التشريعات الناظمة والضرورية للعمل العلني الشرعي والقانوني، وعدم وجود استراتيجيات واضحة، وبرامج عمل محددة، وخطط لتنفيذ أهدافها، يضاف إلى ذلك ضعف التمويل وغياب الدعم الحكومي، وضعف التنسيق بينها، وعدم تخصصية بعضها، الأمر الذي يُحدث نوعاً من الازدواجية والارتباك والتخبّط في مهماتها.
يضاف إلى ذلك أن هناك ضعفاً في صدقية الكثير من قيادات المجتمع المدني وضعف كفاءة بعض العاملين في هذا الإطار، وهو ما ينعكس على كفاءة المنظمات، وغياب الحوار بين مؤسساته والحكومات، ناهيكم عن القيود التي تحدّ من حريته في التعبير، وكذلك تأهيله وخبرته واختلاط بعض مهماته بالمهمات السياسية، وكذلك غياب ثقافة التطوّع والتشبيك وضعف العلاقة مع القطاع الخاص.
ولعل من أبرز التحديات والكوابح التي يواجهها المجتمع المدني من داخله هو غياب الديمقراطية الداخلية وغياب المساءلة والشفافية، وأحياناً تورّط بعضه بالفساد وعدم تداول المسؤولية، وهو الأمر الذي ينتقد عليه الحكومات، في حين أن الحكومات بدأت تعرف كيف تنتقد بعض مؤسسات المجتمع المدني.
إن أهم ما يحتاج إليه المجتمع المدني هو بناء القدرات بما فيها الإطار المؤسسي والإداري وبناء شراكة فعّالة على أساس الثقة والتعاون والتكامل والتكافؤ لجميع أطراف عملية التنمية، كبر دورها أم صغر؟ مثلما هي في حاجة إلى إرادة تقنع بها الحكومات، وإرادة من جانب الأخيرة لكي تقتنع بدوره ومساهمته، ناهيكم عن أداء سليم يقوم على أساس احترام القيم والمبادئ التي يدعو لها، خصوصاً في ظل نشر ثقافة المجتمع المدني والوعي الحقوقي بأهميته ودوره، بعيداً عن الانخراط في الصراعات السياسية والأيديولوجية التي تعيشها مجتمعاتنا العربية، والتي تؤدي إلى انحيازات مسبقة تضعف من صدقيته ونزاهته وحيدته.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي