كان صرحاً من جور وفساد فهوى
لا شك أن يوم الجمعة الثامن من ربيع الأول 1432هـ الموافق 11 شباط (فبراير) 2011، أصبح يوماً خالداً ومجيداً في تاريخ مصر، حيث قطف فيه شعب مصر أولى ثمار ثورته الكبرى؛ إذ أعلن عمر سليمان، نائب رئيس الجمهورية، قرار الرئيس المصري حسني مبارك التخلي عن منصب رئيس الجمهورية بعد أن ظل يعاند لمدة 18 يوماً، ويراوغ ويناور للهروب من الاستجابة لمطلب الشعب الثائر، وهو تنحي الرئيس عن السلطة وإسقاط نظامه الذي كان صرحاً من جور وفساد، ثم هوى أخيراً بعزم وإرادة الشعب، وصدق الشاعر التونسي أبو القاسم الشابي إذ قال:
إذا الشعب يوماً أراد الحياة
فلا بد أن يستجيب القدر
ولا بد لليل أن ينجلي
ولا بد للقيد أن ينكسر
لقد كان حال الشعب المصري العظيم في السنوات الأخيرة من عهد مبارك أشبه بحاله قبل اندلاع ثورة 23 يوليو 1952، تفاوت كبير جدا بين الطبقات، ثلة من الأفراد تحتكر الثروة والسلطة وغالبية الشعب تحت خط الفقر، فضلاً عن تراجع دور مصر الإقليمي نتيجة لقيود اتفاقية (السلام) المبرمة مع إسرائيل، فأدى هذا التراجع إلى تفاقم العربدة الإسرائيلية في المنطقة العربية وتعاظم نفوذ وأدوار الدول غير العربية المجاورة، وأصبح العرب كالأيتام على مأدبة اللئام. لكن الشعب المصري تحرر أخيراً من أسره وشق طريقه نحو الحرية والعدالة، ونأمل أن تبدأ مسيرة الإصلاح السياسي والاقتصادي والاجتماعي، وتستعيد الدولة المصرية قوتها ودورها إقليميا ودوليا، حتى يمكن القول إن الحلم أصبح حقيقة. وأن الأماني أصبحت واقعاً مشهوداً.
إن أجمل وأعظم خصائص ثورة شعب مصر التي فجرها وقادها شبابها على مختلف اتجاهاتهم السياسية وطبقاتهم الاجتماعية، إنها كانت ثورة سلمية صمدت في أيامها الأولى أمام عنف السلطة وقسوتها حتى أجبرت السلطة على التراجع وتغيير طريقة مواجهة الثورة، وبالرغم من أن العنف الذي مارسته السلطة في الأيام الأولى للثورة أدى إلى استشهاد نحو 300 مواطن وإصابة المئات بإصابات مختلفة، إلا أن الشعب الثائر لم يتراجع عن مطلبه الأول، إسقاط الرئيس ونظامه الحديدي الذي طغى في البلاد فأكثر فيها الفساد، ومن يريد أن يعرف شيئاً عن الفساد الذي ران على مصر خلال عهد حسني مبارك، أنصحه بأن يقرأ كتاب (اغتصاب وطن، جريمة نهب الأراضي في مصر) للشاعر والكاتب الصحافي المصري المعروف ''فاروق جويدة''. لقد صدرت الطبعة الأولى لهذا الكتاب من دار الشروق المصرية عام 2010. أي قبل نحو عام من نشوب الثورة الشعبية المصرية، وهو يتكون من مجموعة مقالات نشرها الكاتب في جريدة ''الأهرام'' وصحف مصرية أخرى خلال السنوات القليلة الماضية. وفي هذا الكتاب، يجد القارئ كيف أن مجموعة من الأشخاص استولت على مساحات هائلة من الأراضي دون وجه حق، وإنما عن طريق عمليات تخصيص مريبة وأساليب غير قانونية، أسهمت إسهاما كبيراً في اختلال منظومة العدالة الاجتماعية في مصر.
وأسوق مثالاً آخر في هذا الصدد، وهو صفقة تصدير الغاز الطبيعي المصري إلى إسرائيل بأسعار متدنية تقل عن الأسعار العالمية، وتكبدت مصر بسبب ذلك خسائر فادحة كانت محل إدانة من قبل القضاء الإداري المصري، فضلاً عن أنها كانت محل استنكار شعبي، وسبق لكاتب هذه السطور أن تناول قضية هذه الصفقة وما صدر بشأنها من أحكام قضائية في أربعة مقالات نشرت جميعها في جريدة ''الاقتصادية''.
لقد بدأت الصحف التي تملكها الدولة في الحديث عن بعض خفايا الفساد في عهد مبارك بعد أن أحيل عدد من الوزراء والمسؤولين السابقين إلى التحقيق بشأن ما نسب إليهم من اتهامات تتعلق بالفساد والإثراء غير المشروع، وأصدر النائب العام المصري قراراً بتجميد أرصدة هؤلاء الأشخاص ومنعهم من السفر.
واللافت للانتباه أن الرئيس السابق حسني مبارك هو أول من أقر بوجوب تعطيل الدستور الذي وضع في عهد الرئيس الأسبق أنور السادات ثم جرت عليه تعديلات عديدة في عهد كل من أنور السادات وحسني مبارك زادت من تركيز السلطة في يد الرئيس، وجعلت من تداولها بين الأحزاب السياسية أمراً عسيراً إن لم يكن مستحيلاً، فحزب الحكومة المسمى (الحزب الوطني الديموقراطي) هو الحزب المهيمن دون أي منافسة حقيقية، والأحزاب الأخرى مجرد (مكياج ديموقراطي) ليس لها دور مؤثر. أما الدليل على إقرار مبارك قبل رحيله بوجوب تعطيل هذا الدستور فيكمن في عدم تنفيذ المادة (84) من الدستور التي تقضي بما يلي:
(في حالة خلو منصب رئيس الجمهورية أو عجزه الدائم عن العمل يتولى الرئاسة مؤقتاً رئيس مجلس الشعب، وإذا كان المجلس منحلاً حل محله رئيس المحكمة الدستورية العليا، وذلك بشرط ألا يرشح أيهما للرئاسة، مع التقيد بالحظر المنصوص عليه في الفقرة الثانية من المادة 82 .. ويعلن مجلس الشعب خلو منصب رئيس الجمهورية، ويتم اختيار رئيس الجمهورية خلال مدة لا تتجاوز 60 يوماً من تاريخ خلو منصب الرئاسة).
لكن الرئيس مبارك لم يستقل طواعية ولم يخلفه رئيس مجلس الشعب، وإنما تنحى عن منصب الرئاسة تحت ضغط ثورة الشعب، وكلف عند الرحيل المجلس الأعلى للقوات المسلحة بإدارة شؤون البلاد، وبذلك أقر حسني مبارك بأنه يترتب على سقوطه سقوط الدستور، أو على الأقل سقوط جميع المواد المنصوص عليها في هذا الدستور الخاصة برئيس الجمهورية، سواء المتعلقة بشروط الانتخاب والاستخلاف أو المتعلقة بالصلاحيات، ولا جرم أن يقرر المجلس الأعلى للقوات المسلحة تعطيل العمل بأحكام هذا الدستور وحل مجلس الشعب ومجلس والشورى وتشكيل لجنة لتعديل بعض المواد بالدستور وتحديد قواعد الاستفتاء عليها من الشعب، وأن يتولى المجلس الأعلى للقوات المسلحة إدارة شؤون البلاد بصفة مؤقتة لمدة ستة أشهر أو انتهاء انتخابات مجلسي الشعب والشورى ورئاسة الجمهورية.
ومن ناحية أخرى، أعلن المجلس الأعلى للقوات المسلحة التزام الدولة المصرية بتنفيذ المعاهدات والمواثيق الدولية التي هي طرف فيها. ونزل هذا الإعلان برداً وسلاماً على إسرائيل التي كان يخشى قادتها أن يؤدي سقوط نظام حسني مبارك إلى إلغاء اتفاقية السلام المبرمة بين الدولتين، وهي خشية ليس لها مبرر؛ لأن أولويات مصر بعد رحيل مبارك تتركز حول إعادة ترتيب الشؤون الداخلية، وتحقيق طموحات الشعب المصري في بناء نظام ديموقراطي حقيقي، وتحسين الأوضاع المعيشية للطبقات الفقيرة والمتوسطة، أما إعادة النظر في المعاهدات الدولية، فإن من السابق لأوانه الحديث عن هذا الموضوع في هذه المرحلة الدقيقة.
وفي اعتقادي أنه سيأتي يوم ـــ أرجو أن يكون قريباً ـــ تتمكن فيه مصر من التحرر من قيود اتفاقية (السلام) مع إسرائيل التي أنقصت سيادتها على جزء مهم من أرضها وهو شبه جزيرة سيناء، وعطلت دورها الرائد في محيطها العربي، وفتحت الباب على مصراعيه لليهود والأعاجم للعربدة في الوطن العربي.