سريالية المشهد الإعلامي
لا أعتقد أن إنساناً يستطيع أن يصف ما يجري على الساحة الإعلامية العربية بأنه إعلام حقيقي، فما يجري في الإعلام العربي نوع من الصراع الغريب الذي يستعصي على الفهم، إلا إذا جردناه من صفة الإعلام إلى أي شيء آخر.
ما نشهده عبر القنوات الفضائية على وجه الخصوص نوع من السريالية غير المفهومة، وهو أشبه بلوحة رسمها فنان غير متمكن، فاختلطت ألوانها، وتداخلت معالمها، وأصبحت منفرة للمشاهد، تؤدي إطالة النظر فيها إلى الاكتئاب والشعور بالضياع وفقدان الأمل بالمستقبل.
إحدى هذه القنوات تحولت إلى وزارة حرب، وأصبحت أستوديوهاتها ثكنات عسكرية ومذيعوها أشبه بقادة الانقلاب، وموسيقاها أغناني وطنية من أيام ثورة 23 يوليو، ولم يبق عليها إلا أن تستدعي بزات الضباط الأحرار من المتحف لتلبسها لمذيعيها ومذيعاتها، هذه القناة استمرأت العملية، وأصبحت لا تسعد إلا برؤية الجنائز لتشبع مشاهديها بكاء ولطما، والغريب أن هذه القناة التي تدعي الحيادية لا ترى إلا بعين واحدة تتجه دوماً إلى كل ما هو سيئ في عالمها العربي، أما ذلك البلد القابع إلى الشرق منها وما يجري فيه من مآس وقتل واضطرابات، فتمر عليه مرور الكرام، لمجرد خداع المشاهد، وحتى لا يقال إنها تغافلت عما يجري هناك.
قناة أخرى تريد إمساك العصا من المنتصف، فهي تسعى إلى أن تكون متوازنة في تغطيتها للأحداث، ولكن حينما ترى قناة المارشات العسكرية وأناشيد ''أنا الشعب أنا الشعب'' تجذب عشاق الثورات ومحبي الأكشن، تحاول أن تأخذ من هذا الجمهور نصيبا، فتمارس ما تمارسه تلك القناة، ثم تعود إلى رشدها لفترة من البث. قناة ثالثة تميزت بالكآبة، تبنت مرشحا للرئاسة في مصر نصيبه من القبول داخل مصر، مثل نصيبها لدى المشاهدين، وبذكاء عجيب اختارت مراسلا لها في مصر يتعامل مع الحدث ببرود يوازي برودة أجواء موسكو التي قدم منها. ضمن هذا الوضع المضطرب، برزت قناة هي الأفضل حالا، والأكثر عقلانية وتميزاً في تغطياتها وتحليلاتها للأحداث، بل وفي نوعية من يشاركون في برامجها، ولعل السبب في ذلك الخبرة الطويلة التي اكتسبتها إذاعتها الناطقة باللغة العربية منذ كانت '' هنا لندن '' الإذاعة والمجلة تخاطب المستمع والقارئ العربي.
بقي محللو القنوات الفضائية، وبعضهم يذكرني ببرامج حوار كئيبة كان المذيع والضيف يتبادلان فيها الأدوار، من أجل الجمع بين مكافأتي الإعداد والتقديم.
فما يجري في بعض القنوات الفضائية شبيه بذلك، فالضيف رئيس تحرير صحيفة لندنية ومحاوره مدير قناة لندنية، والحوار حول موضوع طرحه الضيف في صحيفته، وأراد المحاور نقله إلى أكبر عدد من المشاهدين، باعتبار تلك الصحيفة التي لا يُرى فيها إعلان رغم ما يُصرف عليها من مبالغ طائلة، لا يقرأها إلا عددٌ قليل من الناس، أما إبداعات المتحاورين فتسمعها في تحليلاتهما، فصاحب الصحيفة يرى أن منع توزيع صحيفته في تونس ومصر هو سبب سقوط الحكم فيهما، وهو يرى بما أعطاه التمويل من نظر ثاقب أن جميع الدول التي تمنع صحيفته سيصيبها ما أصاب رئيسي تونس ومصر، والمحاور الثاني يتوصل إلى نتيجة شبيهة بما قاله السيد بوش من قبل '' من ليس معي فهو ضدي '' فيرى أن من ليس في خندق إيران فهو في خندق إسرائيل، وكأنه لا يتحدث بلغة عربية ينطق بها أكثر من 300 مليون من البشر لهم استقلالهم عن الطرفين.
مأساة العالم العربي لا تتوقف على وضعه السياسي والاقتصادي والاجتماعي، بل إعلامه جزء أساس من مأساته.