يحدث في بر مصر .. ثورات تفاعلية وواقع سائل وترتيبات إقليمية ودولية

ما يحدث في بر مصر لافت للانتباه، ولافت للانتباه لأنه ليس ثورة، لأن الثورة لها قادتها وأفكارها ورؤيتها، لكنه حركة في ساحة التحرير، يحاول الكثيرون القبض برسنها وقيادتها، فالبعض هبط فجأة بالبرشوت، لم تتمكن الحكومة المصرية من وضعه تحت الإقامة الجبرية، بل جاءتها اتصالات بضرورة تركه يمضي إلى ساحة التحرير، القوى السياسية تعيش الصدمة والنظام السياسي كذلك، والارتباك سيد الجميع، عدا المؤسسة العسكرية.
وعليه سواء اختلفنا أو اتفقنا مع ما يحدث في مصر، إلا أن التاريخ سيكتب للرئيس المصري حسني مبارك أنه قاد مصر في الحرب والسلام، وأنه جنب مصر مغامرات سياسية وعسكرية كثيرة، ولو دخلها مبارك لظلت مصر تعاني إلى اليوم ومستقبلا من آثارها وتداعياتها، وعلينا أن نكون أكثر وعيا وإنصافا وموضوعية، فالرئاسة في مصر ليست معادلة مصرية، بل هي معادلة إقليمية وغربية، ولهذا كانت الدول تراقب المشهد باندهاش.
ما حدث ليس انقلابا عسكريا شاملا، بل حركة شعبية زعيمها وتنظيمها الـ "فيسبوك" والإعلام الجديد والفضائيات، وهنا يتأكد لنا القول (امنحني وسيلة إعلامية وخذ مني ألف فارس)، لكن وعلى ما يبدو وبحسب المشهد الحالي، فإن النظام السياسي قدم التنازلات المطلوبة، لكنها تنازلات منطقية ولم تشكل انهيارا له، وأن الجيش المصري ما زال مهنيا ومقربا من الرئيس وسيبقى الجيش عماد الاستقرار والتوازن في مصر لسنوات طويلة مقبلة، وأن المعارضة السياسية معارضة ظهرت صورية وقريبة جدا من الغرب، صورية كونها فاقدة التأثير وفاقدة للمبادرة، ولكون بعضها معارضة بتعليمات كما يجري الآن من قبل الدكتور محمد البرادعي، الذي يجري تلميعه من قبل الفضائيات الأجنبية والأمريكية، فجميع الأحزاب والحركات ومؤسسات المجتمع المدني الجديدة، والصحف الجديدة هي من بركات الولايات المتحدة، وفي مصر كانت الحرية السياسية عالية، إلا أن تزوير إرادة المواطنين والحديث عن التوريث واختزال السلطة في مجموعة من رجال المال والأعمال ضاعف المأساة، لكن المشكلة التي صدمت الجميع بلا استثناء الرئيس والمعارضة تتمثل في شباب الـ "فيسبوك".
شباب الـ "فيسبوك" لم يأتِ فجأة بالطبع بل كانت له أسبابه والقائمون عليه، وسيكشف النقاب مستقبلا كيف جرى تنظيمه، فالخروج ليس عفويا كما يعتقد البعض بل له قيادات شبابية لها علاقات ومصالح وجهات عديدة أبرزها السفارة الأمريكية، فمنذ عام 2001 وبعد أحداث 11 أيلول (سبتمبر) تم ابتعاث العديد إلى أمريكا للتدريب على التقنية والمعلومات والعلوم الجديدة، وهؤلاء قيادات ظلوا على ارتباط بالسفارة الأمريكية.
لهذا لم تبدأ تصورات الشباب منذ ثورة تونس، فمصر تختلف اختلافا كبيرا عن أي دولة عربية، وأمريكا والغرب يتعامل مع مصر من منظور المركز الفاعل والمؤثر في المنطقة العربية، ولهذا كان السلام يبدأ بمصر والحرب تبدأ بمصر والثقافة والفن والأمن، والتغيير يبدأ بمصر، لكن التغيير ليس على الطريقة التونسية بل على طريقة الخطوة خطوة وعبر التغيير الآمن من الداخل، ما يعني استمرارية النظام السياسي بطريقة أخرى، والتغيير من الداخل تم منذ بدأت الخارجية والمخابرات الأمريكية فتح نوافذها للشارع المصري، عندما بدأت الاستماع لمطالب الشباب المصري، وساندت الخارجية الأمريكية النخب الجديدة ومنحتهم الحماية اللازمة كظاهرة حركة كفاية ممثلة في أيمن نور، وحركة التغيير ممثلة في الدكتور البرادعي، عندها ربط الشباب المصري بمنظومة تفاعلية والسفارة الأمريكية ومن خلال منظمات المجتمع المدني والصحافة الإلكترونية، وشكلت البعثات الخارجية وبرنامج الزائر الدولي دعما غير طبيعي لإنشاء الأطر الجديدة، وعندما أصبح هانز ماهوني مسؤولا عن الدائرة الثقافية والإعلامية في السفارة الأمريكية في القاهرة، وهو شخصية فائقة القدرة في بناء العلاقات ونسجها وتأطرها وربطها بالسفارة الأمريكية وخاصة في الجامعات الأهلية وفي الانفتاح على المجتمع وقطاعاته وخاصة الشباب، وعندما انتشرت ظواهر الصحافة والحركات والأحزاب ومؤسسات المجتمع المدني المدعومة من أمريكا.
مصر تغيرت منذ محاضرة كوندليزا رايس عام 2005 في الجامعة الأمريكية في القاهرة، عندما أكدت أن 60 عاما من السياسة الأمريكية في الشرق الأوسط لم تحدث هناك إصلاحات جوهرية، وأن السياسة الأمريكية الجديدة ستنتبه كثيرا للمجتمع، وتنشئ معه علاقات جديدة، علاقات مع المجتمع المدني مع الشاب والمرأة، وعندما كتب ريتشارد هاس رئيس وحدة التخطيط السياسي الخارجي السابق في الخارجية الأمريكية الذي يؤكد اليوم على أن مرحلة مبارك قد طويت، وأن التغيير قد بدأ، وفي محاضرة له عام 2002 في مجلس العلاقات الخارجية قال هاس: (علينا أن نساعد شعوب الشرق الأوسط والعالم الإسلامي على التغيير، لكن قرار التحرك باتجاه مسار الديمقراطية يعود، في نهاية المطاف، إلى شعوب العالم الإسلامي. إن من مصلحتهم ومصلحتنا أن يقوموا بذلك. وهذه هي أيضاً الطريقة الوحيدة التي تستطيع فيها هذه المجتمعات، شأنها شأن المجتمعات الأخرى في العالم، الاستفادة على أحسن وجه وإلى أبعد حد من الطاقات الكامنة لدى شعوبها، وتحقيق مستقبل لها يتميز بمزيد من الحرية، ومزيد من السلام، ومزيد من الازدهار).
ويوضح هاس برنامج عمل الإدارات الأمريكية لتنفيذ الإصلاح ليس عبر الرسمي بل من خلال (برنامج الزوار الدوليين، وصولاً إلى تقديم المنح لمؤسسات التعليم المحلية ـــ بهدف تشجيع التطوير لإنتاج الأسس لبناء ديمقراطية تشمل صحافة محترفة متوازنة ومتحررة من رقابة الدولة، ومؤسسات غير حكومية نشطة، وقضاء مستقلا. وتعمل المؤسسات الأمريكية الممولة من الحكومة مثل المعهد الديمقراطي القومي والمعهد الجمهوري الدولي في العديد من البلدان ذات الأكثرية المسلمة للمساعدة في تعزيز المؤسسات الديمقراطية).
والمخطط الأمريكي في مصر هدفه القبض على القوة الحية في مصر، التعامل معها والتفاعل معها، وربطها معه في برامج عديدة، وقد شكت الخارجية المصرية العديد من المرات الحراك الكبير الذي يقوم به السفير الأمريكي، لدرجة توجيهها رسالة شديدة إلى الخارجية الأمريكية، تدعو فيها السفير إلى الالتزام بقواعد وقانون العمل الدبلوماسي، بينما قام هانز ماهوني بمئات الزيارات للجامعات والمراكز الثقافية ومؤسسات المجتمع المدني، والعديد من هذه الزيارات كان يتم في سرية دون إعلام السلطات المصرية أو دون إعلام الجهات التي يقوم بزيارتها، وهو الدور نفسه الذي كانت تطلع به جواندولين كاردنو القنصل الأمريكي في الإسكندرية، ناهيك عن الدور الأمني والاستخباري والاستطلاعي المبكر.
إسرائيل كانت تتطلع وما زالت لضمان بقاء نظام الرئيس المصري مبارك، أو على الأقل قيام نظام امتداد للمباركية، ولكن إسرائيل أسهمت بطريقة أخرى في رد حالة التهتك في بنية النظام السياسي المصري، من خلال مجموعة الدراسات والبحوث، ومن خلال مؤسسات المجتمع المدني، ومن خلال مراكز أبحاثها، التي أكدت مرارا أن مصر مقبلة على أزمة، وكانت تنظر إلى ذلك من خلال الوضع الصحي للرئيس المصري مبارك، وقد عبرت مراكز الأبحاث الإسرائيلية مرارا عن عوامل السقوط الداخلي المتمثلة في العشوائيات والفقر والبطالة، وفي انفصال السلطة عن الشارع، والطبقة الجديدة المنتفعة، وبين المعارضة التقليدية، إضافة إلى دخول العنصر الإعلامي الخارجي ودوره في إثارة الشارع المصري، لدرجة جعلت الفضائيات المصريين جميعهم خبراء ولديهم رغبة في الظهور عليها خاصة قناة "الجزيرة" التي استفادت من هذه الدراسات، وقامت بإعداد برامج حية عليها، وعمدت إلى التشهير والتشويه للصورة.
في هذا الجانب أيضا يتضح أيضا فشل الجانب الأمني الاستخباراتي في رصد حقيقة التحولات الجديدة في المجتمع المصري، التحولات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، ووضع الرئاسة المصرية فيما يجري، وأن تؤخذ هذه المتغيرات في الاعتبار من ناحية تطوير النظام السياسي، والارتقاء في الأطر المؤسسية والتفاعل والقوى الجديدة في المجتمع، عبر إلغاء قانون الطوارئ ووضع نائب للرئيس، وهذا يكشف وجود خلل في بنية النظام المصري، ناهيك عن الغرب وأمريكا ظللت الرئيس مبارك عندما كان يعتقد أنه بيضة القبان في مصر، فإما الإخوان والتطرف الديني أو الفوضى، ولهذا كانت فزاعة الإخوان ما أسهم في إطالة أمد النظام في الحكم وأضعف إمكانية حدوث تغييرات في بنية النظام السياسي طيلة السنوات العشر الأخيرة، إضافة إلى عامل ضاغط ومهم تمثل في السعي للتوريث، وهذا المطلب دفع قيادات في الحزب الوطني إلى السعي لقلب الواقع الاجتماعي المصري رأسا على عقب، خاصة رجال المال والأعمال الذين شاركوا في السلطة، ومنطقهم أقرب إلى البزنس وليس الإدارة السياسية.
ما يهمنا ليس الحراك الشعبي، ولا الحراك الذي تحاول القوى السياسية قطف ثماره على قاعدة تقليدية تقول (الثورة يقوم بها الجهلة ويقطف ثمارها الانتهازيون)، وهنا كان حضور الدكتور البرادعي وقدومه من الخارج للمشاركة، وظهوره اللافت للانتباه على الفضائيات الأجنبية، واتصال السفارة الأمريكية به يطرح تساؤلات عديدة، من أن أمريكا قرأت مبكرا أن النظام السياسي لن يعبر مرحلة التغيير، وأن الانفجار قادم لا محالة، وأن المطلوب تأمين المصالح الأمريكية، ويعكس ذلك مسألة غاية في الأهمية تمثلت في رفع الخارجية المصرية كتابا موجها إلى الخارجية الأمريكية، يطالبها بضرورة تقيد السفير الأمريكي في القاهرة، بقواعد القانون الدبلوماسي، وكانت الإجابة أن قيام السفير بعقد لقاءات مع قيادات المعارضة والمجتمع المدني المصري هو لحماية المصالح الأمريكية، فمن يضمن مصالح مصر حال مغادرة مبارك، وهذا الأمر تم في فترة وزارة كوندليزا رايس أي منذ فترة قريبة، وهنا لم يقدر النظام السياسي مرحلة التحولات في السياسة الأمريكية، وهنا ما زلت أميل إلى أن الرئيس الأمريكي باراك أوباما عندما طرح شعار التغيير كان يقصد بالتغيير في السياسة الأمريكية تغييرا في نمط التعامل الدبلوماسي والدبلوماسية الجديدة، دبلوماسية الحوار مع الآخر، وطرح موضوع الدبلوماسية خارج الأسوار، وكان هذا موضع نقاش مهم في دوائر الخارجية الأمريكية عام 2007 وأكملته أخيرا هيلاري كلينتون في مقال في "الفورن افيرز" في كانون الأول (ديسمبر) الماضي كان عنوانه قيادة العالم عبر القوة المدنية، وهو التوجه نفسه الذي طرحه سابقا جوزيف ناي حول دبلوماسية القوة الناعمة.
اللافت للانتباه دور الإخوان المسلمون، فالمعروف عن إخوان مصر أنهم أكثر شراسة وعداء لنظام الرئيس المصري مبارك، وأنهم ضد إسرائيل وضد أمريكا، ولكن اللافت للانتباه غيابهم عن الحدث، هذا أولا وثانيا، حديثهم أنهم غير ساعين للسلطة، والثالث الحديث الأمريكي الجديد عن الإخوان ليسوا حركة إرهابية وأن هناك إمكانية للتعاون معهم ولا اعتراض عليهم إن وصلوا السلطة، وهذا المنطق مختلف من جانب الإخوان أنفسهم والجانب الأمريكي أيضا، رغم صدوره عن شخصية مقربة من الرئيس الأمريكي أوباما، لكنه رسالة تحتاج إلى تفسير، والأمر الآخر الحضور التركي في الأزمة المصرية والدعوة إلى ترتيب عاجل للسلطة، وأخشى ما أخشاه أن تكون تركيا قد أدارت تفاهمات مع الإخوان لترتيب أوراقهم لمشاركة كبيرة في الحكم وعلى النمط التركي، ناهيك عن أن تركيا لديها رغبة في وجود مقاربات فكرية وسياسية قريبة منها في المنطقة.
في التحليل لا يهمنا الحدث، لكن تهمنا مقدمات الحدث وصناعة الحدث وإخراج الحدث ونتائج الحدث، وكل ما نراه أن الشارع أصبح مشكلة جديدة لا تمكن مقاومتها، وأن التقنية لا يمكن حجبها، وأن الديمقراطية عرس وزفة لتقديمنا على طبق من ذهب إلى المصالح الأمريكية باسم الحريات والمشاركة، وتداول السلطة، والديمقراطية ستسهم في تعزيز قيم العلمانية والمصالح في مصر، وستتضاعف المشكلات مستقبلا، ليست الاقتصادية فحسب بل الثقافية والقيمية والوطنية.
هنا نكتشف ظاهرة ما زالت تمضي قدما وتحتاج إلى التحليل، فالنظم العلمانية بعد تغييرها حلت مكانها نظم دينية سياسية، كحالة إيران بعد حكم الشاه أصبحت محكومة من ولاية الفقيه، وحالة السودان بعد نميري تحكمها الحركة الإسلامية، وحالة العراق بعد حكم صدام العلماني أصبحت محكومة من قبل المحاصصة الطائفية، وتركيا العلمانية يحكمها اليوم الإسلام السياسي، وتونس بعد علمانية بن علي سيحكمها الإسلام السياسي، والإسلام السياسي هذا بلا شك إسلام قريب من المعادلة الأمريكية، ولديه موظفوه في المنطقة، خاصة تركيا الجديدة.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي