«معادن»
قبل نحو أسبوعين حظيت بالمشاركة في حفل أقامته شركة التعدين العربية السعودية ''معادن'' توديعا للصديق الدكتور عبد الله الدباغ بمناسبة ترجله عن قيادتها بعد 14 عاما من العمل الدؤوب كرئيس تنفيذي لها، أشرف خلالها على مراحل تأسيسها ثم نموها الملحوظ لتصبح عملاقا يشار إليه بالبنان على خريطة الصناعة في المملكة.
لقد غدت ''معادن'' في السنوات الأخيرة أحد الشواهد على جهود الدولة الواعدة لتنويع مصادر الدخل وتوفير فرص عمل جديدة بتحفيز استغلال ثروات طبيعية خارج إطار النشاطات المألوفة في الاقتصاد السعودي التي تعتمد مباشرة على النفط والغاز. وربما من فضول القول إن ''معادن'' لم تكن لترى النور لولا الاستثمارات الضخمة التي أنفقتها الحكومة في الآونة الأخيرة على المرافق والتجهيزات الأساس لقطاع التعدين كمشروع السكة الحديد لنقل المواد الخام (الفوسفات والبوكسايت) من شمال المملكة إلى المجمع الصناعي في ''رأس الزور'' على ساحل الخليج العربي، وكذلك ميناء التصدير هناك، ومحطات إنتاج الكهرباء والماء لخدمة ذلك المجمع.
كان الحفل على غير ما يتوقعه المرء في مناسبة ترعاها شركة تعدين! إذ حفلت الأمسية بكثير من المشاعر الإنسانية الرقيقة, لا سيما عندما استعرض ضيف الشرف رحلته العلمية والمهنية بأسلوب قصصي مشوق، والتضحيات التي قدمتها عائلته أثناء تلك الرحلة التي بدأت من ''جبل السكارى'' في مدينة الطائف قبل أكثر من 60 عاما، وما غرسه ذلك الجبل في وجدانه من عشق للصخور والمعادن. وحرص الدكتور الدباغ في تلك المناسبة على أن يجير تكريمه إلى شركائه وهم زوجته، ابنه، وبناته, الذين قدموا من أماكن بعيدة ليكونوا إلى جانبه.
بعد أن أصغيت إلى شريط الذكريات الذي أمتعنا به الدكتور الدباغ في ذلك الحفل، ألفيت نفسي أستعيد بعض المحطات التي مررت بها في حياتي بصحبة بعض الحضور الذين لم ألتقيهم منذ سنوات. إذ كان من بين الحضور زميل لي من صفوف الدراسة في المرحلة المتوسطة في مدارس الثغر في جدة، ومنهم من زاملته في بداية حياتي المهنية في الهيئة المركزية للتخطيط في بداية السبعينيات الميلادية، كما كان من بينهم من عرفته في تلك الفترة نفسها خلال عضويتي في اللجنة الفنية التابعة للمجلس الأعلى للبترول والمعادن، التي كان يرأسها الأمير سعود الفيصل من موقعه يومئذ كوكيل لوزارة البترول والثروة المعدنية وأمينا عاما للمجلس.
لم تتوقف الذاكرة في تلك الليلة عند المحطات الخاصة بي فحسب، بل ذكرني العرض المرئي الذي قدمته الشركة عن أعمالها، ومن بينها منجم مهد الذهب، أن لعائلتي ارتباطا قديما بالتعدين, إذ كان والدي ـــ رحمه الله ـــ من السعوديين الأوائل الذين التحقوا بالعمل في ذلك المنجم عام 1355هـ (1936م) عندما أعيد افتتاحه في عهد المؤسس الملك عبد العزيز ـــ رحمه الله، وأسند المشروع حينئذ إلى شركة نقابة التعدين العربية السعوديةSaudi Arabian Mining Syndicate. وعلى الرغم من قسوة الحياة في قرية المهد في تلك الأيام وانعزالها عن العالم، أمضى الوالد فيها ست سنوات في إدارة مستودعات المنجم، تعلم خلالها الكثير ما أفاده في مسيرته المهنية. كما أن ثرى ''المهد'' يضم رفات شقيقتي الكبرى (رباب) التي وافتها المنية هناك وعمرها لم يتجاوز العامين إثر مرض لم يمهلها طويلا.
تلك الليلة لدى ''معادن'' لم تكن ليلة استحضار ذكريات فحسب، بل كانت هناك أحاديث عن المستقبل ومشروعات التعدين الكبرى القادمة في مواقع متفرقة من المملكة. بالطبع وجدتها فرصة مواتية للحديث مع بعض الحضور حول ما سبق أن طرحته في مقال نشرته ''الاقتصادية'' بتاريخ 25/12/1429هـ بأن الأوضاع الجيوسياسية السائدة في العالم اليوم، ولا سيما على المستوى الإقليمي، تجعل من الواجب عند دراسة جدوى المشروعات الاستراتيجية أو ذات الاستثمارات الكبيرة أن نراعي بشكل أكثر من ذي قبل عنصر المخاطر المحتملة، بما في ذلك الكوارث الطبيعية المرتبطة بالمواقع المتاحة لتلك المشروعات عند مفاضلة موقع منها على الآخر.
لم يشكك أحد في سلامة ذلك الطرح، وإن أبدى البعض رؤى أخرى أكثر براجماتية.