صورة تونس النمطية.. مقايضة السياسة بالاقتصاد!

البدايات الفعلية لانتفاضة الياسمين التونسية كانت صبيحة يوم 17 من كانون الأول (ديسمبر) عام 2010 عندما أقدم الشاب التونسي الجامعي محمد البوعزيزي، الذي اضطرته البطالة للعمل على بيع الخضراوات في عربة متنقّلة، على إحراق نفسه في مدينة ''سيدي بوزيد''؛ احتجاجا على قطع رزقه من قبل مسؤولة في السلطة أبلغته بعدم قانونية عمله؛ لعدم حصوله على الترخيص المطلوب، ومن ثم قامت بالاعتداء عليه بالإهانة والضرب أمام الجماهير المحتشدة الشاهدة على الحدث. وعندما حاول الشاب التقدّم بشكوى وجد أن الأبواب موصدة أمامه، وفي لحظة يأس وتأثّر أضرم النار في جسده (وتوفي لاحقا). هذه الشرارة أشعلت انتفاضة شعبية عارمة وحرّكت احتجاجات هائلة، شملت مناطق عدّة، ووصلت تونس العاصمة بداية كانون الثاني ''يناير'' العام 2011.
حتى ذلك الحين لم يكن المشهد يوحي بأن أمرا جللا سيحدث للرئيس زين العابدين بن علي ونظامه، الذي بدا قويا مدججا بالسلاح والمال والمُخبرين، وبدعم دولي كبير، حتى أن الرئيس الفرنسي ساركوزي وهو يستمع إلى الأخبار ويتأمل الموقف اعتقد أن ثمة عارضا قد يكون طارئا يمكن السيطرة عليه، فعرض على الرئيس التونسي إمكانية تأمين حماية فرنسية له، باعتباره حليفا لتونس، لكن الأخير تلمّس وعورة الطريق وخطورة الموقف فاضطر إلى التنازل، ومن ثم الفرار.
وتحت ضغط شعبي وإعلامي فرنسي غيّر ساركوزي موقفه، ولا سيما حين جدّ الجدّ فلم ترخّص السلطات الفرنسية الحليفة بدخول بن علي الأجواء الفرنسية، واضطرت طائرته، بعد البحث عن بديل مالطيّ وإيطاليّ، إلى أن تحطّ في جدّة بعد اتصالات أجراها مع السعودية، التي وافقت على استقباله بشروط محددة، ولاعتبارات إنسانية، كما تم تبرير ذلك. أما الولايات المتحدة التي كانت تعتبر نظام بن علي مستقرا، على الرغم من تحفظاتها حول ممارساته بشأن حقوق الإنسان، شدّدت من لهجتها، وهو ما عبّر عنه الرئيس أوباما في رسالته التي نشرت بُعيد اندلاع الانتفاضة، والتي دعا فيها إلى احترام إرادة الشعب التونسي.
وكان قد سبق ذلك ما كشفته وثائق ويكيليكس خلال الربع الأول من شهر كانون الأول (ديسمبر) عام 2010 عن البرقية التي أبرقها السفير الأمريكي المعتمد لدى تونس روبرت جوديك في تموز (يوليو) من عام 2009 إلى وزارة الخارجية الأمريكية، حيث وصف من خلالها الفساد والبذخ قائلا: ''إن المشكلة واضحة، في تشدد النظام التونسي، المكروه شعبيا على نحو عميق، ولا سيما زوجة الرئيس زين العابدين بن علي وعائلتها التي تحكم منذ 22 عاما، وأن النظام فقد التواصل مع الشعب، وهو يعتمد على أجهزة الشرطة من أجل السيطرة وتركيز السلطة''.
ومع بداية يوم 13 كانون الثاني (يناير) 2011 أدرك الرئيس التونسي آنذاك زين العابدين بن علي حراجة موقفه وخطورته وعليه حسم أمره، ولا سيما بعد أن حاصرت الانتفاضة الشعبية مقرّاته وقصوره، وعلى الرغم من مواجهتها بالأسلحة والذخيرة الحيّة، وقتل ما يقارب الـ 70 مواطنا أعزل، إلا أن الجماهير ظلّت مصرّة على رحيله، ومع أنه حاول المناورة بإعلانه: إطلاق الحرية الكاملة للإعلام وعدم إغلاق مواقع الإنترنت، وأنه لا رئاسة لتونس مدى الحياة، وتفعيل الديمقراطية والتعددية. معتبرا التغيير استجابة لمطالب الجماهير، لكنه أدرك أن الوقت قد فات وهو المعروف بحسه الأمني وخبرته الطويلة في هذا الميدان، وأن الموجة هذه المرة أكبر من أن تتحطم على صخرة حكمه المتسلط، وأن زمام الأمور قد أفلتت من يده؛ ولذلك بحث في صفقة سياسية ليغادر البلاد سريعا، مانحا تفويضا إلى رئيس وزرائه محمد الغنوشي، معلنا من خلال التلفزيون التونسي حالة الطوارئ، على أمل أن يتم ترتيب البيت التونسي فيما بعد، لكن الأمور سارت باتجاه آخر غير ما تشتهيه سفن بن علي.
لعل هذه المفارقات تحتاج إلى وقفة تأمل وتحليل للصورة النمطية التي راجت عن تونس وبمبادرة وسائل إعلام عربية وغربية، وهي التي لم تكن تتورع من القول: إنها دولة مزدهرة مدنية وعلمانية، وفيها قانون أحوال شخصية متطوّر، حتى أن فرنسا الشريك التجاري الأول لتونس لغاية مغادرة بن علي تونس بساعات قليلة والمتخوفة من مدّ إسلامي، أصدرت بيانا رئاسيا رحّبت فيه بالإجراءات التي أعلن عنها بن علي وحثته على مزيد من الانفتاح، وقد بدا البيان الفرنسي وكأنه يعكس قناعة بأن بن علي سيجتاز هذا الامتحان الصعب بنجاح، وأنه مرشح للبقاء لمزيد من الوقت.
وسرعان ما تبدّل هذا الموقف الذي طالما قدم الحماية والدعم على الساحة الدولية لشريكه التونسي، ليقرر إقفال أجوائه وحدوده أمام طائرته ورفض طلبه باللجوء إليها. وهذا ما لا يتوافق مع ما أبدته فرنسا من موقف سابق وعلى لسان رئيس جمهوريتها آنذاك أثناء زيارته إلى تونس عام 2003، حين فاجأ الرئيس الفرنسي السابق جاك شيراك التونسيين بتصريح غريب، حيث قال: إن توفير الغذاء والتعليم والصحة هو من أهم حقوق الإنسان، وكان ذلك ردًّا قاسيا على احتجاج مناضلي حقوق الإنسان الذين أنكروا عليه دعمه المطلق لنظام بن علي، وقد كان ذلك التصريح إعلانا صريحا عن عمق العلاقة التي تربط فرنسا بنظام بن علي، وعدم استعداد باريس للتفريط بها، مهما قيل عن خرقه لحقوق الإنسان وتضييقه على الحريات الديمقراطية، فقد كان بن علي في نظر الفرنسيين آنذاك ناجحا على صعيد أمرين أساسيين:
الأول: أنه أسّس لنموذج اقتصادي ليبرالي مدني، حدّ فيه من تدخل الدولة وفتح الباب أمام الاستثمارات الأجنبية، في إطار اتفاق شراكة مع الاتحاد الأوروبي، وهذا النموذج الاقتصادي في نظر الفرنسيين هو الذي يسهم في بناء مجتمع منفتح تلعب فيه المرأة دورا متقدما، وتحتل فيه القيم الغربية، وفي مقدمتها الحريات الفردية بمعناها غير السياسي، مزيدا من المساحات، لتشكّل هوية جديدة تجعل المجتمع التونسي أقرب إلى مجتمعات شمال المتوسط ومبتعدا أكثر عن شبهات الأسلمة والأصولية المخيفة، بل يقف سدًّا منيعا في وجهها.
والثاني: هو التحكّم الأمني الباهر الذي جعل تونس بعيدة عن مظاهر انتشار تيار الإسلام السياسي، الذي يمثل الخطر الأكبر في نظر الغرب، في ظل ازدياد الشعور بالإسلامفوبيا.
ومن هنا، انبرت معظم الدول الأوروبية إلى مساندة فرنسا في موقفها من النظام التونسي؛ وذلك في سبيل حماية مصالحها، كما بدت مطمئنة إلى صمود بن علي وبقائه في السلطة؛ لذلك بادرت إلى القول بأن استعمال الرصاص الحي ضد المتظاهرين العزل، ليس أكثر من مجرد استعمال غير متكافئ للقوة، ولم يصل ذلك إلى حد الإدانة أو الرفض.
وقبل ذلك كان بن علي يراهن على أن التنمية الاقتصادية المتسارعة التي ستحدثها سياسة الشراكة والانفتاح الكبير ستعمل على تحسين شروط الحياة للسكان وتعظيم الأمل في المستقبل وتعزيز شرعية النظام، وبالتالي ستتم مقايضة السياسة بالاقتصاد، حيث سيكون البحث عن البقاء أهم من البحث عن الهوية والحقوق، إلاّ أنه لم يفرّق بين النمو والتنمية المستدامة بمعناها الشامل السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي والقانوني والتربوي وغيره مثله مثل الكثير من الأنظمة.
وإذا كان المقصود بالتنمية حتى عهد قريب هو النمو الاقتصادي، فإن هذا المفهوم استبدل بالتركيز على التنمية البشرية وبتعميق فكرة التنمية الإنسانية المستدامة فيما بعد، أي الانتقال من الرأسمال البشري إلى الرأسمال الاجتماعي، وصولا إلى التنمية الإنسانية ببعدها الشامل، أي الترابط بين جميع مستويات النشاط السياسي والاجتماعي والاقتصادي والثقافي والقانوني والتربوي والبيئي وغيرها، بالاستناد إلى نهج متكامل يعتمد على مبدأ المشاركة والتخطيط الطويل الأمد في حقول التعليم والتربية والثقافة والإسكان والصحة والبيئة وغيرها، وبتوخي قدر من العدالة والمساءلة والشرعية والتمثيل وتعزيز قيم الحرية واحترام حقوق الإنسان.
وفي حين ظلّ النمو الاقتصادي حكرا على مجموعة صغيرة من حواشي وذيول النظام والمتعاونين معه من الذين ازدادوا ثراءً وتخمة، بينما عموم السكان يعانون الفقر والحاجة والدخل المحدود، وإذا كان الإنسان هو أثمن رأسمال وغاية كل دين أو فلسفة أو أيديولوجية، وحسب الفيلسوف الإغريقي بروتوغوراس: الإنسان مقياس كل شيء، فإنه بهذا المعنى يجب أن يكون المستهدف الأساسي لأية سياسة أو قانون أو خطة اجتماعية أو تنموية إنسانية، الأمر الذي عاظم التفاوت الاجتماعي وساعد على عزلة النظام، فضلا عن انعدام الحريات، وهو ما لم يكن يدركه نظام بن علي.
وإذا أردنا أن نحسب للرئيس السابق زين العابدين بن علي إيجابية واحدة فهي تخلّيه عن مقاليد الحكم حتى وإن كان اضطرارا ومغادرة البلاد دون الحاجة إلى إزهاق المزيد من الأرواح، في مشهد لم يسبق له مثيل في العالم العربي، حين تشبّث طغاة بأسنانهم حتى آخر لحظة بالسلطة، الأمر الذي دفع ثمنه الشعب غاليا.
ولعل انتصار الحق بأساليب سلمية ولا عنفية على الرصاص والعسف، هو أهم الدروس لشعوبنا وللغرب وللعالم أجمع، وهو دليل عافية وصحة على سلامة ومدنية الشعب التونسي، الذي مزّق الصورة النمطية الزائفة التي قايضت السياسة بالاقتصاد، متجاوزة على الواقع، الأمر الذي تجلّى على حقيقته، بانتفاضة حطّمت صورة بن علي ونظامه لتضع مكانها صورة تونس وانتفاضتها الياسمينية الجميلة.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي