«رفض التوطين» أم إقرار حق العودة؟

ليس لدى اللبنانيين من جواب عن حالة وجود ما يزيد على ربع مليون لاجئ فلسطيني في لبنان سوى شعار "لا للتوطين". وليس صحيحًا أن المسيحيين منهم انفردوا به من دون المسلمين، فالأخيرون ما توقفوا عن القول به منذ ثمانينيات القرن الماضي، وإنْ رَسَخَ في الأذهان أنه شعارٌ من إبداع "الجبهة اللبنانية" (المسيحية) أثناء اشتباكاتها المسلّحة مع مقاتلي منظمة التحرير وحلفائها في الحركة الوطنية اللبنانية أثناء حوادث الحرب الأهلية في منتصف السبعينيات. ومع الزمن، زاد التفاهم بين الفريقين حول المسألة ليحصل إجماعٌ لبنانيٌّ بشأنها أخذ يترجم نفسَه حثيثًا في "البيان الوزاري" عشية تشكيل كل حكومة، ويحظى بالموافقة النيابية من دون جدال.
ليس لأحدٍ أن يصف هذا الإجماع اللبناني على رفض التوطين الفلسطيني إلا بالقول إنه إجماعٌ مشروع. فمن ذا الذي يملك حقَّ مجادلة اللبنانيين في وطنٍ لهم لا يهدّده إخلالٌ خارجيّ بتركيبتهِ السكانية القائمة على توازنٍ حسَّاس وهشّ؟ بل إن دفاعهم عن ذلك الوطن المتحرّر من عبء الضغط على توازناته السكانية ليس حقًّا محقوقًا لهم فحَسب، وإنما هو واجبٌ عليهم وجوبًا وطنيًّا لا لبس فيه.
يَقْبل شعار "لا للتوطين" قراءةً إيجابيةً تَفْهَمُهُ أو تؤسِّسُ معناهُ على النحو التالي: لا يَقْبَل لبنان أن يتحمَّل تَبِعَات جريمةٍ ارتكبتها الجماعات الصهيونية المسلَّحة في فلسطين هي جريمة اقتلاع السكان من أرضهم بالإرهاب وحَمْلِهِمْ على اللجوء إلى الجوار، وتبرئةِ تلك الجماعات ـــ ودولتِها اليوم ـــ من مسؤولية الجريمة. قراءةُ شعار "لا للتوطين" هذا النَّحْوَ من القراءة الإيجابية تعني ـــ أيضًا ـــ معنَيَيْن مترابطين: إن الفعلَ الإسرائيلي فعلُ جريمةٍ مزدوجة: جريمة ضدّ من اقْتُلِعوا بالقوة من أرضهم وجريمة ضدَّ من أُجْبِرَتْ أَرْضُهُم واجتماعُهم على استقبال المقتَلعين من وطنهم. هذه واحدة. الثانية أن لبنان يرفض بشعاره ذاك (لا للتوطين) مشاركة الُمْجرم في جريمته أو مكافأتَه على جريمته. والجريمة هي حرمان الفلسطيني من العودة إلى وطنه. والمشاركةُ في الجريمة ومكافأةُ المجرم إنما تكونان بقبول توطين الفلسطيني خارج أرضه: لبنان في حالتنا، أي من طريق التسليم بمشروعية تلك الجريمة المزدوجة.
يَقْبَل هذا الشعار، مرةً ثانية، قراءةً إيجابية إن قِيلَ ـــ مثلاً ـــ إنه حُمِل على إدراك خطورةِ مطالب أو ضغوط دولية (أمريكية في المقام الأول) على لبنان كي يوافق على استيعاب الكتلة الشعبية الفلسطينية اللاجئة على أرضه مقابل مساعدات مالية دولية مجزية لتأمين ذاك الاستيعاب. تكون وظيفةُ الشعار، في هذه الحال، الدفاع عن لبنان في وجهِ ضغط دوليّ يُعفي إسرائيل من مشكلةٍ خلقتْها هي ويُلْقيها على لبنان. أما المساعدات، فلا تبدو ـــ في ميزان هذا الشعار: ضمن هذه القراءة ـــ سوى رشوة لبنان للتفريط بما هو فيه حقٌّ حصْريّ لأبنائه.
يطيب للمرء منّا أن يَحْمل شعار "لا للتوطين" على هذا المعنى الذي يُنْصف فيه اللبنانيون أنفسَهم وينصفون فيه الفلسطينيين في حقوقٍ لهم اهتُضِمَت ويبغي من يَبْغي أن يصادق لبنانُ على ذلك الاهتضام ويشارك فيه من موقع مَن يتبرَّع بالأرض والمواطنة على مَن سُرِق حقُّه. وهو المعنى الذي نأمل أن يُحْمَل عليه ذلك الشعار عند اللبنانيين كافة.
قلنا نأمل لأن هذا المعنى ليس الوحيد الذي ينطوي عليه شعار "لا للتوطين"، أو هكذا على الأقل يفهم ذلك كثيرون ويَخْشى ذلك آخرون يعانون من الشعور بثِقْل التباسات الشعار عليهم، أو من الشعور بأن مَنْ يرفعُ الشعار من أهل الطبقة السياسية اللبنانية ـــ من المِلَل والنِّحَلِ كافة ـــ لا يكلّف نفسَه تقديم شروح وإضافات تبدِّدُ الإبهام وتُصَرِّح بما تُضْمِرُهُ عموميةُ الشعار أو إمكانيةُ حَمْله على أكثر من معنىً. ويرتفع معدل هذا الشعور عند الفلسطينيين، المعنيّين أكثر من غيرهم بمعنى الشعار على هذا الوجه أو ذاك. لكنه ليس قصرًا عليهم، وإنما يشاطرهم إياه لبنانيون كثر يهمّهم جدًّا أن يُقرأ الشعارُ قراءةً إيجابية وعادلة في إنصاف حقوق الفريقيْن المتضرريْن من اللجوء: اللبناني والفلسطيني معًا.
المعنى الثاني: الذي يَخْشى منه هؤلاء هو المعنى الذي تُفَكُّ فيه الرابطة بين "لا للتوطين" وبين ممارسة العودة للاجئين إلى أرضهم وديارهم التي اقتُلعوا منها بالقوة. فقد يُفْهم من عدم الإلحاح على تلك الرابطة أن اللبنانيين لا يَعْنِيهِم من الموضوع كلِّه سوى التخلص من اللاجئين بأية صورة سياسية ممكنة. المهمّ أن يغادروا لبنان وليس إلى أين سيغادرونهُ: إلى فلسطين، إلى العراق، إلى المَهَاجر البعيدة، إلى المرّيخ حتّى! وهو، في رأي منتقديه، معنى سلبي لمبدأ رفض التوطين. وليس مَأْتَى سلبيته من كونه لا يبدي اهتمامًا بمصير من يُطالِب بعدم توطينهم في لبنان فحسب، بل مأتاهُ ـــ أيضًا ـــ من الاعتقاد بإمكان تجنيب لبنانَ مؤامرةَ التوطين من دون أن يكون البديل الفعليّ للتوطين هو، بالذات، عودة اللاجئين إلى وطنهم.
هذا سجالٌ سياسي في المسألة يجري بين اللبنانيين، ثم بين بعضهم والفلسطينيين. ترتفع حدَّتُه أو تهبط في سوق المضاربات السياسية كلما دخلت عليه متغيرات: تزايد أحداث أمنية في المخيمات، اشتباكات لبنانية ـــ فلسطينية كما حصل قبل سنوات في نهر البارد، مفاوضات التسوية، اقتراب موعد انتخابات ... إلخ. لكنه ـــ في الأحوال جميعًا ـــ سجال مشروع، بصرف النظر عن لغته، لأنه يتناول مسألةً مصيريةً بالنسبة إلى لبنان وإلى الفلسطينيين فيه.
من نافلة القول إن الفلسطينيين في لبنان يرفضون، مثل اللبنانيين، توطينهم. لكنهم يزيدون على ذلك بالقول إنهم يريدون ممارسة حقهم المشروع في العودة إلى وطنهم. بعض اللبنانيين يتماهى مع موقفهم، وبعضٌ آخر يهمُّه الوجهُ اللبنانيّ من المسألة أيًّا تكون النتائج المترتبة: عودة أو لا عودة. هنا لا مهرب من التأمُّل في مسألتين: سياسة رفض التوطين، ثم استراتيجية العمل لتحقيق مطلب رفض التوطين.
حتى الآن، تترجَّح سياسةُ رفض التوطين بين إعلان الدولة هذا المبدأ في مختلف المناسبات والمحافل كسياسة عليا ومحاولة توفير الشروط التي لا تشجّع الفلسطينيين على التفكير في الإقامة الدائمة في لبنان. بيت القصيد في هذا الوجه الثاني من السياسة، لأنه يقود إلى عكسه: إلى الزيادة في منسوب المخاوف اللبنانية من الوجود الفلسطيني. ذلك أن سياسة الإقفال على المخيمات الفلسطينية في فضاء معزول عن محيطه، وحرمان الفلسطينيين من الحقوق المدنية ومن البعض القليل من الحقوق السياسية، ومن عشرات الوظائف والمهن، لا يقود بالضرورة إلى توليدِ وعيٍ سياسيّ لديهم بامتناع خيار التوطين في مجتمع ودولة لا تتوافر فيهما فرص الحياة والبقاء، بل يقود حتمًا إلى إنتاج شعورٍ بالغبن والحيف والمظلومية. وهو ما يولِّد مشاعر الحنق والنقمة ويؤسِّس لتحويل المخيمات إلى فضاءات لإنتاج اليأس السياسي الذي يترجم نفسَه أحيانًا في أفعالٍ تُخِل بالأمن. إن حالة البؤس والاستنقاع في المخيمات هي التي أنتجت ظواهر العنف وقادت إلى الصدام في نهر البارد. وهي، في عرف علم الاجتماع، أعراض لأسبابٍ على لبنان أن ينتبه لنتائجها الكارثية على أمنه. ولا بأس في مثل هذه الحال أن يسأل الجميع نفسه: لماذا لا يشكل الوجود الفلسطيني في سورية والأردن، وهو أضعاف أضعاف نظيره في لبنان، مدعاة لمشكلات أمنية في البلدين؟ أليس لأن الفلسطينيين لا يعيشون هناك في غيتوهات ومعازل، ولا يتعرضون للميز في الوظائف والعمل؟ لا مهرب، إذن، من إعادة النظر في سياسةٍ تتغيَّا توفير شروط رفض التوطين فيما هي تولِّد نتائج تحوّل الوجود الفلسطيني إلى كابوس جماعي.
أما فيما اتصل باستراتيجية العمل لتحقيق مطلب رفض التوطين، فهي لا يستقيم لها أمْرٌ بمجرد رفع شعار "لا للتوطين" من دون أن يقترن ذلك بالمطالبة الدائبة بإقرار حق العودة. وليس السبب في ذلك فقط أن أيَّ أحدٍ في العالم لن يساعد لبنان في "التخلّص" من الفلسطينيين فيه من طريق استيعابه لهم كلاًّ أو بعضًا ليرفع عن لبنان "عبء" وجودهم فيه (لأن ذلك "الأحد" إن وُجِدَ سيقول إن هذه مشكلة إسرائيل أو مشكلة لبنان، وعلى أيٍّ منهما أن يحلّها بنفسه)، وإنما السبب في ذلك أن الاقتران بين المطلبين (رفض التوطين، إقرار حق العودة) هو وحده ورقة القوة المتاحة للبنان سياسيًّا وقانونيًّا. ذلك أن لبنان لا يَقْوى على إقناع أحدٍ في العالم بعدالةِ حقِّه في رفض التوطين إلا بردّ هذا الحقّ إلى أحكام القانون الدولي. وبمقتضى تلك الأحكام، يكون في حوزة لبنان القرار 194 الخاص بعودة اللاجئين سلاحًا شرعيًّا لتعزيز مطلبه، حيث لا قرار له غيره. بل إن المرء لا يتزيَّد إذْ يقول إنه إذا كان في وسع الرئيس محمود عباس أن يتنازل عن ذلك القرار كي يحصل على دولة في الضفة والقطاع. فلا مصلحة للبنان قط في التنازل عنه.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي