على هامش ملتقى السفراء الأتراك الثالث تركيا.. البصيرة الدبلوماسية ومنظورها للنظامين الإقليمي والعالمي
على الرغم من الرؤية الاستراتيجية والبصيرة السياسية التي تحكم عقل وزير الخارجية التركي أحمد داوود أوغلو ورؤيته لعمق تركيا الاستراتيجي ودورها الإقليمي والعالمي والعمل على ترجمتها إلى مفردات سياسية ودبلوماسية، إلا أن صناعة الرؤية الاستراتيجية تحتاج إلى تكامل شامل في التخطيط الاقتصادي والسياسي والأمني الداخلي والخارجي، وأن تكون جميع مؤسسات الدولة بمثابة روافد حقيقية فاعلة لخدمة الهدف الاستراتيجي، ولا يكفي هذا التكامل لصناعة الدور الخارجي، إلا إذا حملت الدولة رؤية ورسالة أخلاقية لدورها الخارجي تؤمن فيه بضرورة مساهمتها في صناعة الاستقرار والتعاون الدولي وتكون مقبولة ومرحبا بها ضمن هذين المستويين، على أن تحترم سيادة الدول وخصوصياتها وتتشارك معها في صناعة الأمن والسلام الإقليمي والعالمي.
هذا التشارك يأتي في سياق تغيرات طرأت على مفهوم القوة ومعطياتها وعناصرها والتي باتت مختلفة عن السابق لتداخلها وتعدد مصادرها ناهيك عن إعادة تفعيل وقراءة معطيات القوة الثابتة والمتغيرة وكيفية إدارتها والتعامل معها، إضافة إلى دخول عوامل وفواعل جديدة كأدوات مساهمة في صناعة القوة ، غير أن اللافت للانتباه أن أنقرة على الرغم من مساحة الحرية والاستقلالية في قرارها السياسي وعلى الرغم من مكانتها الاستراتيجية التي تؤهلها للعب دور قيادي، إلا أنها ما زالت في كثير من تفاعلاتها السياسية تدور في إطار الرؤية الاستراتيجية الأمريكية، والدليل أن تركيا لم تتمكن من تعزيز مكانتها في دول منطقة القوقاز رغم أن ثمة تاريخا وثقافة ومشتركة بسبب فيتو روسي، وتراجعت عن حماستها للاتحاد الأوروبي بعدما اقتنعت أنقرة أن كل علمانيتها وكل تنازلاتها لن تفيدها لأن تكون عضوا فاعلا في الاتحاد الأوروبي ولهذا كانت استدارتها الاستراتيجية.
معنى ذلك عدم قدرة تركيا على تحقيق ملامح قوة متكاملة خاصة بها سواء كانت هذه القوة في عناصرها الداخلية أو تفاعلاتها وتحالفاتها ومجالها الحيوي الخارجي، وإلى هنا ستبقى هناك مسافة كبيرة بين التنظير السياسي والواقعية السياسية، ستدفع دول المنطقة للنظر بحساسية مقرونة بالشك إلى الدور التركي لا بسبب حضوره وفاعليته، وإنما لكونه مرحلة سياسية لن تطول كثيرا نظرا لطبيعة ومنهج الحكم والسياسة في تركيا وتقلباتها، هذا مع الأخذ في الاعتبار حالة تركيا الجديدة الساعية للدور وصولا إلى مرحلة ترى أنها جديرة بها وفقا لتجليات أوغلو تتمثل أن تستعيد تركيا الفضاء العثماني وأن تكون مركزا لهذا الكون، ولهذا يشكو الأتراك غياب التنسيق الاستراتيجي المتكامل معهم عربيا وإسلاميا والسبب أن تركيا كما قلنا ما زالت مترددة ولم تحسم خياراتها الاستراتيجية بعد، رغم توظيفها السياسي المتميز للتناقضات الإقليمية والعالمية لخدمتها، ورغم تأكيدها أنها استعادت ذاتها الاستراتيجية وأنها تنطلق من خلالها.
في الثالث من كانون الثاني (يناير) الجاري عقد في باحة وزارة الخارجية التركية مؤتمر مهم للسفراء الأتراك في الخارج، وهو بالطبع المؤتمر الثالث وجاء تحت عنوان لافت للانتباه (البصيرة الدبلوماسية: النظام العالمي والإقليمي من منظور تركي) وقد استمر هذا المؤتمر حتى التاسع من كانون الثاني (يناير) من الشهر ذاته، غير أن هذا المؤتمر شهد بعض الرسائل السياسية البعيدة، فقد حرص وزير الخارجية التركي أحمد داوود على أن يزور السفراء الأتراك وبمعيته ضريح كمال أتاتورك وأن يضع إكليلا من الزهور ويقف دقيقة صمت.
هذه الرسالة أراد أوغلو من خلالها التأكيد على أن الاستراتيجية التركية هي جزء لا يتجزأ من التاريخ ومن فلسفة أتاتورك وتعاليمه العلمانية، وهذا التاريخ والفلسفة يشكلان الدعامة ومحور القوة والحضور لتركيا ولحزب العدالة والتنمية أي أن السياسة التركية الجديدة لا تتجاوز التعاليم الأتاتوركية بل تتكامل معها، في وقت يعلن فيه أوغلو للصحافة الأمريكية أن العثمانية الجديدة هي سياسة جديدة تستند على إرث تاريخي طويل، وفي الوقت ذاته يؤكد فيه لكوادر الدبلوماسية التركية بضرورة الابتعاد عن المشكلات والحساسيات في البلدان التي يمثلون تركيا فيها، بينما يطالبه الدبلوماسيون الأتراك بضرورة إيضاح ما يعينه بالعثمانية الجديدة كونها فضاء جيوسياسيا يثير فزع ومخاوف العديد من البلدان، فهل هي تعبير سياسي ومجال حيوي للسياسات التركية والدور الذي تتطلع إليه تركيا، أم هي رابطة سياسية مقاربة للكومونويلث البريطاني، والفرانكفونية الفرنسية؟ وكيف للسفراء أن يجيبوا على هذه الأفكار وسط رفض لكل معاني الهيمنة السياسية أو ممارسة الدور على حساب الاحترام المتبادل بين الدول والشعوب، تتحول فيه عمق الروابط الثقافية والتاريخية والدينية المشتركة مع أنقرة من نعمة يمكن استثمارها إلى نقمة أخرى.
وعلى الرغم من أن التصريحات السياسية والحضور السياسي الخارجي للدور التركي الذي يشهد انعطافة كبيرة، إلا أنني ومن باب التحليل المهني ما زلت أشكك في إمكانية تركيا أن تحقق أهدافها الخارجية في الإطارين الإقليمي والعالمي ضمن تنظيرات أوغلو دون وجود تعاون إقليمي وعالمي، ودون ضوء أخضر كبير من قبل فاعلين مهمين في السياسة العالمية والإقليمية، رغم رقة ورشاقة الخطاب الدبلوماسي وما تحصلت عليه أنقرة من هذا الحراك الدبلوماسي النشط، إلا أن هذا أيضا يجب ألا يجعلنا نسهم في مواراة الحقيقة الواقعية من أن تركيا أنهت خلافاتها الداخلية, رغم أن المتابع يرى أن مشكلاتها وأزماتها ما زالت قائمة وأن حزب العدالة والتنمية وعلى الرغم من مرونته السياسية العالية ما زال يعيش على هوامش القلق وحواف الأمن والتوتر الكبيرة، وليس أكثرها تعبيرا من أن العدالة والتنمية في الوقت الذي يتحدث فيه عن علاقات ودور خارجي وعثمانية جديدة، ما زالت السياسة التركية تشهد حالة من عدم التوازن في الخطاب السياسي فلا تزال أنقرة مشدودة إلى الحنين بممارسة الدور أكثر بكثير من عملها الواقعي على تحقيق متطلبات هذا الدور والدليل أن حزب العدالة والتنمية رغم نجاحاته ما زال يشعر أن المستقبل ليس بيده وأنه ما زال يمازج بين الخطاب الشعبوي والتعبوي وبين متطلبات النهج الواقعي, وهذان نهجان مختلفان تماما، فقد نجحت حكومة العدالة والتنمية إعلاميا وسياسيا في مؤتمر سياتل واستثمرت إعلاميا قذارة الدور الإسرائيلي في غزة واستثمرت البعد الإسلامي للدفاع عن حركة حماس وغدا أردوغان محبوبا لدى الجماهير العربية، لكن تركيا الدور والمكانة الاستراتيجية والحضور العالمي والإقليمي وقفت عاجزة عن إرضاخ إسرائيل ولو من باب حفظ ماء الوجه لتقديم اعتذار دعائي هزيل يفيد الحكومة داخليا وينقذها خارجيا بعدما وجه لها وزير الخارجية الإسرائيلي أفيغدور ليبرمان إهانات جديدة وصفت الدبلوماسية التركية بالوقحة. أوغلو يحاول أن يتهرب من أخطاء السياسة التركية ومجاملاتها ولعبها دورا في الإطار السياسي والرؤية الأمريكية في المنطقة للحديث عن أن تركيا لم تعد كما كانت سابقا, بل قالها بصراحة (الثياب المعدة لنا باتت ضيقة ولا تسعنا) لكن لم يعترف بأن الطرف الأمريكي منح تركيا سروالا فضفاضا يقيها برد الشتاء وحر الصيف ويمنحها مجالا أوسع للحركة الإقليمية ضمن ما سماه أوغلو مجازا بالنهج السياسي الواقعي في التعامل مع الأزمات وذكر منها الملف النووي الإيراني والاعتداء الإسرائيلي على قافلة الحرية، مشيرا إلى أن المعالجة التركية لهذه الأزمات استندت إلى دبلوماسية دقيقة ومراعية لمصالح البلاد في المقام الأول والاستقرار والأمن ثانيا، معتبرا أن هذه السياسة حققت نجاحات في المحيطين الإقليمي والعالمي.
ولا نعرف كيف أسهمت السياسة التركية في حل معضلة الملف النووي الإيراني خارج إطار ورؤية وتوجيهات الاتحاد الأوروبي وخارج رؤية واشنطن وضوابطها وضمن سياساتها وما تفاهمت وأنقرة على إدارته ضمن حدود واشتراطات واضحة وضمن استراتيجية أمريكية جديد لتفويض الأدوار السياسية، ولا نعلم كيف حلت أنقرة معضلة تداعيات الاعتداء الإسرائيلي على قافلة الحرية بعد مقتل تسعة مدنيين أتراك، غير اللقاءات السرية في جنيف والتي سعت لها أنقرة وبضغوط أمريكية، ومسارعة تركيا للمساهمة في إطفاء حرائق حيفا، رغم إصرار إسرائيل العلني من أنها لن تقدم اعتذارا وافيا وكافيا لأنقرة ولو من باب ذر الرماد في العيون، في وقت يخطب حزب العدالة والتنمية كل مقاربة سياسية أو إعلامية ويستثمرها لأجل دعم مركزه السياسي في الانتخابات القادمة في ظل منافسة شديدة قد لا يكون فيها العدالة والتنمية الحزب الفائز في الانتخابات.
هنا تطرح دوائر سياسية مختلفة سؤالا في غاية الأهمية، هل ما طرحه أوغلو هو جزء لا يتجزأ من استراتيجية الدولة التركية, وكيف وهل جاء ذلك بتوافق وطني شامل؟ وهل حسمت تركيا وللأبد رؤيتها السياسية واختارت هذا المنهج؟ أم أن الحزب الفائز في الانتخابات المقبلة ستكون له رؤية أخرى أيضا وربما مخالفة لها؟ وماذا لو فاز حزب الشعب الديمقراطي، أو تحالف وحزب السعادة مثلا؟ في إطار ذاكرة ليست ببعيدة في تركيا تقول إن السياسة التركية تتغير لعبتها بتغير قواعد العملية الحزبية ونتائجها؟
في هذا المؤتمر الذي صيغت محاوره وأجندته ليتشكل كحاضنة مستقبلية لصناعة السياسة الخارجية التركية وليكون (الباب العالي) الجديد للسياسة التركية والذي يهرع إليه وزراء خارجية الكومونويلث العثماني ليؤكدوا فيه طاعتهم للوالي العثماني الجديد ويتسلموا من السلطان أوغلو تعليمات وفرمانات سياسية، وقد كشف المؤتمر مقاربات التنظير السياسي وملامح الرؤية وتطبيقاتها العملية عندما وجهت الدعوة إلى عدد من رؤساء الدول ووزراء الخارجية كمتحدثين في المؤتمر الذي يحضره بالطبع ـــ عدا عن رؤساء البعثات الدبلوماسية التركية ـــ كادر متخصص في التخطيط الاستراتيجي والسياسي الخارجي وتسهم فيه المؤسسة الأمنية التركية بهدف إيضاح ليس حدود وأطر السياسة التركية وإنما معادلات القوة وموازين القوى وتوزيعاتها وفاعلية تركيا ومشاركتها العالمية في صناعة الأمن والاستقرار العالمي والإقليمي وحدود قوتها أيضا، وتشارك فيه الجامعات وهيئات المجتمع المدني الموازي للعمل السياسي الخارجي.
غير أن تركيا وهي ترسم ملامح دورها ما زالت تحاول الخروج من عقدة الماضي القريب من إن تركيا ليست دولة ممزقة بل دولة متلاحمة الأوصال ولا تريد أزمات في محيطنا وهذا الكلام جزء من خطاب أوغلو في مؤتمر السفراء الأتراك ويضيف أوغلو ويقرر هنا أن تركيا لم تدر ظهرها للاتحاد الأوروبي, وهي ليست كما قيل لم تعد مهتمة بعضوية الاتحاد الأوروبي خوفا على استقلاليتها، غير أنه يعترف بأن بطاقة الدخول للاتحاد الأوروبي مرهونة بالموقف من قبرص ويرد على المطالب الأوروبية بالقول (يتعين على دول الاتحاد الأوروبي ألا يخيروا تركيا بين قبرص والاتحاد الأوروبي فلا يمكن لأحد إرغامنا على القيام بشيء لا نرغب فيه).
نحن ندرك أن لدى تركيا مقومات ثرية لدور سياسي إقليمي وعالمي، ولكن التأهل للعب أدوار عالمية يحتاج إلى إمكانات كبيرة وهائلة وتفعيل غير عادي للجيوبوليتك التركي في علاقاته مع دول الجوار وفي الأطر المختلفة العالمية والإقليمية والمؤسسات والمنابر والمؤتمرات العالمية والحضور الإنساني وأيضا الدور الأخلاقي في التعامل والقضايا الدولية المعقدة، ولكي تكتسب تركيا معنى أخلاقيا أيضا فإن أنقرة في حاجة إلى عوامل القوة وأسبابها المادية والمعنوية الصلبة والناعمة، ولهذا لا يمكن اقتصارها على جانب معين وترك الجانب الآخر للمعادلة، فلا تزال النخبة التركية لا تتفاعل وهذا الخطاب الجديد ولا يزال كثير من المستويات الوطنية غير مدركة أو واعية لمتطلبات الدور الجديد، ولهذا تحتاج أنقرة إلى تفسير وإيضاح مقومات دورها في إطار تعبيرات وزير الخارجية التركي (إن الدور الذي تلعبه تركيا يحظى بتقدير واهتمام واسع لحكمتها في معالجة المسائل العالمية والإقليمية وكذلك بصيرتها في التعامل مع التطورات الدولية)، وهنا يطرح سؤال غاية في الأهمية وهو إن الدور التركي الذي يعنيه أوغلو لم يمتحن امتحانا حقيقيا بعد لنكتشف قوة وفاعلية الدور التركي لا بل العكس من ذلك فقد اتضحت هشاشته وضعفه وتراجعه وانكساره أمام السياسة الإسرائيلية.
وفي هذا المؤتمر الذي يبدو فيه أوغلو قد تجاوز عن الواقعية السياسية وظل أسيرا للطبع الأكاديمي والتنظيري في تقديمه رؤى تبدو حالمة بعض الشيء بقوله ( إن السياسة التركية تسعى لأخذ زمام المبادرة في حل المشكلات التي تعوق الاستقرار والأمن العالميين كما تسعى للريادة في قيادة التكتلات والكيانات المشكلة من مجموعة الدول الحكيمة)، وهنا نستحضر أن دولا مثل دولة السويد استطاعت بمهارة دبلوماسية في ظرف سياسي دولي أن تلعب دورا كبيرا في حل الأزمات العالمية والإقليمية، والحديث عن الأمن والسلام والعدالة الدولية، لكن السويد وبعد سنوات من اغتيال أولف بالمة 1982 ـــ 1986 ووزيرة خارجية السويد آنا ليند في أيلول (سبتمبر) 2003 وبعدها تراجعت السويد عن دورها السياسي العالمي. ما يعني أن كثيرا من السياسات العالمية لا تملك الاستمرارية لأنها لا تملك المقومات ولأنها ليست تعبيرا حقيقيا عن تحول استراتيجي، وإنما يتوقف التحول فيها على مجموعة من الرموز السياسية لم تمتحنها السنوات بعد من حيث ديمومتها ولا من حيث إمكانية نجاحها، ولهذا باعتقادي ما يفسر عدم وجود تفاعل عربي والدور التركي الجديد يعود سببه بأنه وعلى الرغم من رشاقة الدبلوماسية التركية إلا أنها ما زالت دون مقومات مادية حقيقية، ولهذا لم نستغرب سؤالا يطرح على الدبلوماسية التركية مثل: ما موقف تركيا العملي لو أن تهديدا عسكريا إيرانيا تعرضت له دول الخليج؟ كيف سيكون الحضور التركي وما ملامحه؟ وسؤالا آخر يطرح حول ما الموقف التركي من احتمالية اجتياح إسرائيلي ثاني لقطاع غزة، وهي بالطبع أسئلة لا يمكن الإجابة عنها نظريا ليس لصعوبتها وإنما لأن تركيا لا تملك الاعتراف كدولة قائدة في الإقليم، كما أنها لا تملك إمكانات الفعل والتأثير في مختلف الظروف وفي مختلف المناطق، بل تبقى قوة الحضور التركي معتمدة على جهدها الدبلوماسي ومكانتها وعلاقاتها ورغبتها كطرف محايد في إبعاد الإقليم عن كثير من المشكلات لا في قدرتها على وقف أية انحرافات وعواصف قد تطرأ في المنطقة.
إن دبلوماسية الإطفاء ومضخات المياه الرطبة تحتاج إلى طرفين لا ممانعة لديهما من حضور سياسي تركي، كما حدث بين دمشق وتل أبيب عبر تركيا ودور تركيا الدبلوماسي بين بغداد ودمشق، هذا من جانب، ومن جانب آخر يجب أن تتبنى تركيا موقفا حازما من إسرائيل تظهر فيه أن اختبار قوتها وقدرتها على الفعل والتأثير ليست محدودة إقليميا، وأن ممارسة تركيا للواقعية مع إسرائيل وإمكانية تجاوزها عن صفعة إسرائيل لتركيا حتما ستثير سؤالا لدى جهات أخرى حول إمكانية تكرار تركيا للأسلوب ذاته في أزمات أخرى؟ وهل ستكتفي حينها أنقرة بتوجيه اللوم والشتم وتعلية المطالب والشروط؟ أم ستمارس الواقعية السياسية من جديد وتبحث عن لقاءات سرية ومناسبات اجتماعية لوصل ما انقطع، بهدف تحقيق منافعها ومصالحها؟
قد تمتلك تركيا فعلا سياسيا ودبلوماسيا متميزا وقد تمنحها الظروف القدرة على ترطيب الأجواء السياسية, غير أن تركيا عكس ما يقول أوغلو من أن الصورة عنها قد ترسخت في أذهان الساسة وصناع القرار في العالم بأن لدى أنقرة تصورا سياسيا لكل قضية عالقة وأزمة ناشئة وأن الدور التركي كان إيجابيا دائما ومساعدا تجاوز الأزمات، ولا شك في ذلك بالطبع, غير أن تركيا لم تفعل شيئا في الموضوع الفلسطيني ـــ الإسرائيلي ولا في الموضوع الشيشاني ولم تسهم بتعزيز معادلة الأمن والاستقرار العراقية ولا في الصومال مثلا. وهنا نطرح تساؤلا كيف لتركيا أن تسهم كما تدعي في تشكيل المنطقة وتحديد مستقبلها في وقت تتعرض فيه دول المنطقة المرتبطة معها بعلاقات تاريخية وثقافية ودينية لأبشع أنواع الممارسات السياسية المزدوجة عالميا، وهي ترى عمليات شد الأطراف والتدخل في شؤونها الداخلية، وهندسة الأزمات الداخلية لها، وفي الاستفتاءات التي تطول بعض أجزائها، ألا يجدر بتركيا الباحثة عن دور والساعية إلى أن تكون عنصرا رئيسا في السياسة العالمية والإقليمية وأن تمارس أخلاقيات الدولة الحكيمة مقابل سياسات القرصنة الدولية.
تركيا تدرك جيدا تغير ملامح خريطة القوى العالمية وتوزيعاتها، وتدرك جيدا أن الولايات المتحدة ساعية وعلى نحو استراتيجي، نحو إبراز القوى الإقليمية المتحالفة معها إبرازا استراتيجيا ومنحها دورا سياسيا واقتصاديا تكامليا كون أمريكا تدرك أنها تعيش حالة من التراجع في الدور السياسي العالمي وحالة استنزاف سياسية واقتصادية، وبسبب هذا التراجع تحتاج أمريكا إلى الاعتماد على فاعلية القوى الإقليمية مثل تركيا والهند واليابان، وربما إيران مستقبلا إذا ما نجح الأتراك في إعادة تطوير الرؤية السياسية الإيرانية، ولهذا لا نستغرب أن تدفع الولايات المتحدة بإعادة تشكيل مجلس الأمن الدولي لتضاف إليه كل من ألمانيا وتركيا والهند وجنوب إفريقيا.
لكن, ولكون السياسة فن الممكن ولكونها قدرات وإمكانات واردة سياسية وظروف إقليمية وعالمية وبسبب حالة الترهل والسيولة في القوة الإقليمية والعالمية، فليس من المانع عربيا من التفاهم والتوافق السياسي مع تركيا، تفاهما قد يقود مستقبلا إلى تفاهمات استراتيجية، وهنا تتضح مدى قدرة ورغبة الدبلوماسية التركية في تعزيز هذه التفاهمات والشراكات وصولا إلى الأهداف البعيدة.