الأزمة الدبلوماسية بين أمريكا وفنزويلا والقانون الدبلوماسي

تعد فنزويلا خامس دولة مصدرة للنفط في العالم، وصاحبة أكبر احتياطي نفطي خارج منطقة الشرق الأوسط باحتياطي يتجاوز 211 مليار برميل، كما تعد فنزويلا ثالث أكبر مصدر للنفط إلى الولايات المتحدة، وهي لذلك تعد من الدول التي لها أهمية خاصة في العلاقات الدولية للولايات المتحدة، ومنذ أن تبوأ الرئيس الفنزويلي هوجو شافيز منصب الرئاسة في بلاده في شباط (فبراير) عام 1999، أصبحت العلاقات بين بلاده والولايات المتحدة مشوبة بالتوتر، فتوجهات الرئيس شافيز اليسارية وأفكاره الاقتصادية والاجتماعية وسياسته الخارجية تصادم السياسة والمصالح الأمريكية الدولية خصوصاً في قارة أمريكا اللاتينية، ولذلك فهو من الوجهة الأمريكية يعد دكتاتوراً ثورياً راديكالياً مثل الزعيم الكوبي فيدل كاسترو، غير جدير بالبقاء في الحكم ولذلك جرت محاولة انقلابية ضده مدعومة من الولايات المتحدة عام 2002، باءت بالفشل بعد 48 ساعة من سيطرة قادة الانقلاب على زمام الحكم بسبب خروج جماهير غفيرة من الشعب الفنزويلي إلى الشوارع، مؤيدة من قبل بعض قادة الجيش، تعلن رفضها للانقلاب وتمسكها برئيسها الشرعي المنتخب انتخاباً ديموقراطياً طبقاً للقواعد الدستورية.
واتهم الرئيس شافيز الولايات المتحدة بأنها كانت وراء الإضراب الكبير الذي شهدته الصناعة النفطية الفنزويلية خلال الفترة من كانون الأول (ديسمبر) 2002م إلى شباط (فبراير) 2003م، الذي كان يتغيا شل صناعة النفط التي تعتبر المصدر الرئيس للدخل الوطني، بهدف زعزعة نظام الحكم القائم في البلاد حتى يتهاوى ويسقط.
ودأب الرئيس شافيز على اتهام الولايات المتحدة بأنها تنتهج سياسة إمبريالية، وأن لديها خططا لاغتياله وغزو بلاده. وفي عام 2005 دعا قس إنجيلي أمريكي ومرشح سابق للرئاسة يدعى (بات روبرتسون) إلى قتل الرئيس شافيز قائلاً: إن التصفية الجسدية لهذا الرجل قد تكون أقل تكلفة من شن حرب. وقد أثار هذا التصريح غضب قطاعات واسعة من الرأي العام في أمريكا اللاتينية، واضطر المتحدث الرسمي باسم وزارة الخارجية الأمريكية آنذاك إلى أن يصرح بأن (بات روبرتسون) هو مواطن عادي وأن آراءه لا تعكس سياسة الولايات المتحدة واصفاً دعوته لقتل الرئيس شافيز بأنها (غير ملائمة). وقد علق شافيز قائلاً (إنه إذا قَُُتل، فلن تتلقى الولايات المتحدة قطرة من نفط فنزويلا لمدة ألف عام).
ما تقدم كان مدخلاً موجزاً وضرورياً للحديث عن الأزمة الدبلوماسية التي نشبت في الآونة الأخيرة بين الدولتين بسبب معارضة الرئيس شافيز اختيار الرئيس الأمريكي باراك أوباما للدبلوماسي الأمريكي (لاري بالمر) ليكون سفيراً جديداً للولايات المتحدة في فنزويلا. وأوضح الرئيس الفنزويلي أن سبب معارضته لاعتماد لاري بالمر سفيراً أمريكياً في بلاده يرجع إلى انتقاده الحاد للحكومة الفنزويلية خلال جلسات الاستماع التي عقدها مجلس الشيوخ قبل أشهر تمهيداً لتعيينه. وردت الولايات المتحدة على معارضة فنزويلا اختيار لاري بالمر بإلغاء تأشيرة دخول السفير الفنزويلي في واشنطن (برناردو ألفاريز) الذي يقضي إجازته في بلاده، وقال المتحدث باسم وزارة الخارجية الأمريكية (إن الحكومة الفنزويلية خرقت الاتفاق المتعلق بلاري بالمر، ولقد تصرفنا بالشكل المناسب والمتكافئ وبالمثل). وأكدت وزارة الخارجية الأمريكية أنها لن تعين سفيراً آخر في فنزويلا بدلاً من لاري بالمر، وأن إلغاء تأشيرة الدخول للسفير الفنزويلي لا يعني أنه طرد رسمياً من واشنطن لأنه يمكن إلغاء تأشيرة الدخول وإعادة العمل بها بالسرعة نفسها.
نحاول في هذا المقال أن نعالج هذه الأزمة في ضوء أحكام اتفاقية فيينا للعلاقات الدبلوماسية التي أقرها مؤتمر الأمم المتحدة للعلاقات الدبلوماسية والحصانات في 16/4/1961، ودخلت حيز النفاذ في 24/4/1964، التي قننت الأعراف الدولية في مجال العلاقات الدبلوماسية بين الدول، فنقول ما يلي:
أولاً: بموجب مبدأ السيادة للدولة الموفدة الحق أن تعين من تشاء رئيساً لبعثتها الدبلوماسية لدى الدولة المستقبلة إلا أن العرف الدولي استقر على أنه يتعين على الدولة الموفدة أن تطلع الدولة المستقبلة اسم الشخص المزمع تعيينه رئيساً لبعثتها الدبلوماسية قبل إيفاده والتأكد من أنه شخص مرغوب فيه Persona grata، وقد اصطلح العرف الدبلوماسي على تسمية هذا الإجراء بأنه عملية (استمزاج) ولقد جعلت المادة الرابعة من اتفاقية فيينا عام 1961 عملية (الاستمزاج) شرطاً ضرورياً يسبق التعيين النهائي لرئيس البعثة الدبلوماسية حيث نصت الفقرة الأولى من هذه المادة على ما يلي:
(على الدولة الموفدة أن تتأكد من أن الشخص الذي تتولى اعتماده رئيساً لبعثتها لدى الدولة المستقبلة قد نال قبول هذه الدولة).
وطبقاً للفقرة الثانية من المادة الرابعة سالفة الذكر فإن الدولة المستقبلة غير ملزمة تجاه الدولة الموفدة ببيان أسباب رفض طلب الاعتماد.
ومن جهة أخرى، فإن المادة التاسعة من اتفاقية فيينا أعطت في فقرتها الأولى الدولة المستقبلة الحق في أن تخطر الدولة الموفدة في أي وقت كان، ودون أن تبرر قرارها، بأن رئيس البعثة أو أي عضو من أعضائها أصبح شخصاً غير مرغوب فيه أو أن أي عضو من هيئة البعثة أصبح شخصاً غير مقبول. وفي هذه الحالة تستدعي الدولة الموفدة الشخص المعني أو تنهي خدماته في البعثة تبعاً لكل حالة. ويجوز اعتبار أي شخص غير مرغوب فيه أو غير مقبول قبل أن يصل إلى أراضي الدولة المستقبلة.
وترتيبا على ما سبق فإنه إذا رفضت الدولة المستقبلة اعتماد الشخص المرشح لرئاسة أو عضوية بعثة بلاده لديها، فإنه ليس من حق الدولة الموفدة أن تصر على تعيين هذا الشخص وأن عليها أن تختار شخصاً آخر يحوز ثقتها ورضا الدولة المستقبلة.
ثانياً: في ضوء ما تقدم يمكن القول إن فنزويلا لم تخرق أحكام اتفاقية فيينا الخاصة بالعلاقات الدبلوماسية عندما رفضت استقبال السفير الأمريكي الجديد، فهي حتى لو كانت قد قبلت اعتماده في البداية فإن من حقها أن تعتبره شخصاً غير مرغوب أو غير مقبول، قبل أن يصل إلى أراضيها، وهي وإن كانت غير ملزمة قانوناً ببيان أسباب عدم اعتماده إلا أنها أوضحت أنها وجدت في انتقاداته الحادة التي وجهها للحكومة الفنزويلية خلال جلسات الاستماع المتعلقة بتعيينه في مجلس الشيوخ الأمريكي مساساً بكرامة الدولة الفنزويلية. وإذا كان من مهام رئيس أي بعثة دبلوماسية توثيق وتنمية العلاقات الودية في مختلف المجالات بين دولته والدولة المستقبلة، فإنه لا يمكن اعتبار شخص يوجه انتقادات حادة علنية لحكومة الدولة المستقبلة قبل أن يباشر مهامه الرسمية، جديراً بالقبول أو قادراً على تنمية العلاقات بين الدولتين في مختلف المجالات.
وأخيراً تجدر الإشارة إلى أنه يبدو أن بعض الدبلوماسيين الأمريكيين يرون أن من الدبلوماسية أن تضرب الدبلوماسية عرض الحائط، وبالتالي لا يجدون حرجاً من التدخل السافر في أمور تدخل في مجال الشؤون الداخلية للدول المعتمدين لديها، وهم بذلك بدلاً من أن يسهموا في تنمية العلاقات الودية بين بلادهم والدول المعتمدين لديها يثيرون الغضب والاستياء، بل كراهية الدولة التي أوفدتهم.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي