رمزية القرار 1514 و«متحفية» الكولونيالية!

تمرّ هذه الأيام الذكرى الخمسون لصدور إعلان الأمم المتحدة الخاص بتصفية الاستعمار Decolonization ففي 14 كانون الأول (ديسمبر) عام 1960 صدر القرار رقم 1514 من الجمعية العامة للأمم المتحدة بعنوان ''إعلان منح الاستقلال للبلدان والشعوب المستعمَرة''، وارتبط هذا الإعلان بحصول عديد من شعوب إفريقيا وآسيا على استقلالها وحقها في تقرير مصيرها، وبالطبع لم يكن ذلك بمعزل عن نضالها وتضحياتها، التي أسهمت في دفع المجتمع الدولي إلى الإقرار بحقوقها وفي إصدار مثل هذا الإعلان، ناهيكم عن حصولها على استقلالها تنفيذاً لما جاء في حيثيات القرار 1514 وتحقيقاً لتوازن القوى الجديد الذي شهده العالم آنذاك، لا سيما بعد مؤتمر باندونج عام 1955، إضافة إلى تبلور كتلة عدم الانحياز في عام 1961 والتي عُرفت لاحقاً بمجموعة الـ 77 والتي أصبحت تضم اليوم 143 دولة.
لعل جيلنا اليوم يستذكر برمزية خاصة القرار 1514، فذكراه ترتبط بنهوض الشعوب وتطلعاتها نحو الحرية، وقيام أنظمة وطنية وثورات تحررية وزعامات كبرى مثل: جواهر لال نهرو، وجمال عبد الناصر، وجوزيف بروز تيتو، وهوشي منه، وماوتسي تونج، وآخرين، الذين شكّلوا علامات بارزة في حركة التحرر آنذاك، وخصوصاً منذ أوائل الخمسينيات وحتى أواخر السبعينيات من القرن الماضي.
دخل حق تقرير المصير الأدب القانوني على نحو رسمي بعد الحرب العالمية الأولى 1914، وذلك عبر رافعتين أساسيتين، الأولى في ما تبنّته ثورة تشرين الأول (أكتوبر) الروسية، من إعطاء شعوب روسيا حقوقها بعد الإطاحة بالقيصرية لعام 1917، وما شمل مرسوم السلام الذي صدر غداة الثورة، والثانية هي إعلان الرئيس الأمريكي ويلسون المتضمن 14 نقطة، مؤكداً على حق تقرير المصير، الذي حاول بجهود مضنية إدراجه في عهد عصبة الأمم عام 1919، لكن جهوده لم تتكلل بالنجاح بسبب التيار السائد آنذاك، والذي اعتبر فكرة حق تقرير المصير بمثابة تجاوز على الدولة الوطنية ووحدة أراضيها.
وإذا كانت صفحة الاستعمار (الكولونيالية) التقليدية قد طويت في عام 1990 إلاّ أن ثمة استعمارا استيطانيا، إجلائيا استمرّ حتى بعد انتهائه على المستوى العالمي في جنوب إفريقيا عام 1993، ونعني به الاستعمار الاستيطاني الصهيوني إزاء شعب فلسطين الذي ظلّ محروماً من حقوقه العادلة والمشروعة، ولا سيما حقه في تقرير مصيره الذي أكّد عليه القرار 1514، يوم أشار على نحو واضح ''أن لجميع الشعوب الحق في تقرير المصير'' وعلى حقها ''في أن تحدد بحرية مركزها السياسي، وأن تسعى بحرية إلى تحقيق نموّها الاقتصادي والاجتماعي والثقافي'' وجاء فيه ''ومن أجل ذلك طالبت الجمعية العمومية في هذا الإعلان جميع الدول بوقف فوري لمختلف الإجراءات القمعية والأعمال العسكرية الموجهة ضد الشعوب تمكيناً من إيصالها إلى استقلالها الناجز سلمياً و إلى احترام وحدتها الإقليمية''.
وتزامن صدور القرار 1514 مع صدور قرار آخر أعقبه بيوم واحد برقم 1541 (15 كانون الأول (ديسمبر) 1960) تمّ بموجبه وضع 12 مبدأ للتعريف بالأقاليم الواقعة تحت الاستعمار، وتطورها باتجاه الحكم الذاتي، وضرورة مساعدتها لبلوغ هذه الغاية وصولاً إلى الاستقلال، لكن ما تميّز به القرار 1514 هو اعتبار الاستقلال الطريقة الوحيدة لتحقيق تقرير المصير للأقاليم غير المحكومة ذاتياً، في حين أن القرار 1541 قدّم خياري الاتحاد أو الارتباط بدولة مستقلة، لكنه في الوقت نفسه أكّد أن الاستقلال هو النتيجة الطبيعية التي تحصل عليه الأقاليم غير المحكومة ذاتياً أو غير المستقلة.
ولعل ما عزّز القرار 1514 بشأن تصفية الكولونيالية، والقرار الذي تلاه واستكمله 1541، هو صدور قرار من الجمعية العامة بعد عشر سنوات اتخذ من مبدأ حق تقرير المصير أساساً لتطوير أحكام تتعلق بالقانون الدولي. وقد صدر قرار الجمعية العامة تحت رقم 2625 في 24 تشرين الثاني (نوفمبر) 1970 وتحت عنوان ''إعلان حول مبادئ القانون الدولي المتعلقة بعلاقات الصداقة والتعاون بين الدول وفقاً لميثاق الأمم المتحدة''.
إن القراءة المتمعّنة لهذا القرار تتيح النظر إلى ما يتجاوز فكرة حق الشعوب في تقرير مصيرها الواردة في القرار 1514، الذي استبعد حق الأقليات، في حين أن القرار 2625 يربط فكرة حق تقرير المصير بالأقليات أيضاً، مع أنه يصبّ في أساس مبادئ القانون الدولي المعترف بها، والتي تشمل سبعة مبادئ جاء الميثاق على ذكرها، لكنها وجدت تطويراً وتأكيداً لها في هذا الإعلان الذي يعُتبر على قدر من الأهمية، لأنه صدر ضمن توازن قوى دولي بين الكتلتين (الاشتراكية والرأسمالية)، وفي ظروف الحرب الباردة والصراع الإيديولوجي، واضعاً ترابطاً بين المبادئ القانونية الدولية، محاولاً إعطاء فكرة حق تقرير المصير معنى أوسع ومحتوى أشمل.
إن أهم ما في هذا الإعلان ربطه بين فكرة حق تقرير المصير والحكومة التمثيلية، وعليها ستتوقف الوحدة الإقليمية والسياسية للدولة المستقلة، ويعني هذا النص أن أية حكومة غير تمثيلية ستتيح للشعوب حق المطالبة بتقرير مصيرها، دون التعكّز على فكرة قدسية ''الوحدة الإقليمية والسياسية'' إلاّ إذا ارتبطت بالحكومة التمثيلية و''الحقوق المتساوية وتقرير المصير للشعوب'' دون تمييز بسبب العرق أو الدين أو العقيدة أو لأي سبب آخر.
فالوحدة ستكون محتملة بوجود حكومة تمثيلية، بمعنى أن الجزء الذي لا تمثله الحكومة لن يكون مُلزَماً باحترام الوحدة الإقليمية للدولة، وهكذا سيصبح الانفصال Secession أمراً متوقعاً، وأعتقد أن محكمة العدل الدولية بقرارها المؤرخ في 24 تموز (يوليو) 2010 بخصوص كوسوفو ذهبت بهذا الاتجاه، يوم أعطت رأياً استشارياً مفاده: أن الاستقلال (الانفصال من طرف واحد) لا ينتهك القانون الدولي، وذلك بناءً على طلب من الجمعية العامة للأمم المتحدة، وهو الأمر الذي قد يصبح واقعاً بعد الاستفتاء في جنوب السودان في التاسع من كانون الثاني (يناير) 2011 القادم. ولعل قرار محكمة لاهاي سيكون سابقة قانونية وقضائية يمكن الاستناد إليها دولياً لإعلان الاستقلال من طرف واحد فيما إذا كانت الظروف الموضوعية والذاتية تستجيب لذلك، حيث تصبح الوحدة دون رضا جزءا من السكان، شعب، أو مكوّن ثقافي، مفروضة وقد تحتاج إلى فك ارتباط، لا سيما إذا اقترنت بنزاعات عسكرية!
مثل هذا الرأي الذي يذهب إليه عدد من فقهاء القانون الدولي يعارضه آخرون، حيث يعتبرون أن الإعلان ينطبق على الشعوب التي تعيش في ظل أنظمة عنصرية، ولا علاقة له بموضوع تطبيقات حق تقرير المصير على المستوى الداخلي، أي أن حذراً مصحوباً بشيء من القلق على مصير الوحدة الإقليمية احتواه القرار، لا سيما فيما يتعلق بالجانب الداخلي، حيث أكد ''أن وجود دولة مستقلة ذات سيادة وتملك حكومة تمثيلية تعمل بفاعلية تجاه جميع الشعوب المتميزة distinct الموجودة داخل أراضيها، يفترض أنه يرضي مبدأ الحقوق المتساوية وحق تقرير المصير لهذه الشعوب''.
وهكذا فإن حق تقرير المصير يتم تقييده بمبدأ الوحدة الإقليمية وحرمة الحدود والسيادة، على الرغم من التطور الذي حصل في هذا الميدان الحيوي من القانون الدولي، فإن بعض التطبيقات التي جاءت عقب حروب ونزاعات حربية دفعت الأمور باتجاه ترجيح كفّة الاستقلال أو الانفصال، على حساب وحدة لا تُرضي المكوّنات المختلفة جميعها، ففي حين يتمسك الاتجاه السائد بفكرة السيادة الإقليمية ووحدة الأراضي، يميل الاتجاه الآخر، إلى الحق في تقرير المصير، خصوصاً عندما يتعذّر العيش المشترك، أو عندما يصبح مستحيلاً حسب تقديرات ''أقلية'' ما أو مكوّن بعينه أو شعب له خصوصية في دولة متعددة القوميات.
وإذا كانت كوسوفو قد أعلنت انفصالها (استقلالها) من طرف واحد في 17 شباط (فبراير) عام 2008 واعترف بها حتى الآن 69 دولة على الرغم من معارضة كل من صربيا وروسيا لاعتبارات قومية ودينية وجيوسياسية، فإن تيمور الشرقية أنشئت بقرار من مجلس الأمن، الأمر الذي يحتاج إلى وقفة جدية، ونحن نستعيد ذكرى القرار 1514 ودلالاته الفكرية والسياسية والقانونية وانعكاساته على صعيد الدول المتعددة القوميات، وهو ما حاولت إضاءته في مؤتمر الجزائر الأكاديمي الرفيع المستوى، الذي نظمه وزارة الخارجية الجزائرية بحضور مفكرين وقانونيين ودبلوماسيين وأكاديميين بارزين.
واعتقد أن موضوعاً بهذا الوزن يحتاج إلى نقاشات أوسع وحوارات أشمل، لأنه سيواجه عديدا من بلدان العالم المتعددة القوميات ومنها العراق، لا سيما مطالب الشعب الكردي في العراق بوضع حق تقرير المصير موضع التطبيق، سواءً بالاتحاد الاختياري، الطوعي، أو بالحق في تشكيل كيان سياسي مستقل دولة، فضلاً عما يمكن أن يواجه المجتمع الدولي وبشكل خاص دول الجوار العراقي من ردود فعل متأثرة ومؤثرة بالواقع القائم، ناهيكم عن افتراض اللجوء إلى الحلول القانونية والقضائية بما فيها إلى فتوى من محكمة العدل الدولية!!

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي