في عين العاصفة «3»

تقدم القول إن الشواهد تدل على أن الاقتصاد الأمريكي يمر بأصعب مراحله التاريخية، وأن هيمنته المطلقة تتراجع، وقدرته التنافسية تضعف. وأن الخلل الذي يعانيه الاقتصاد الأمريكي هو خلل هيكلي متجذر وليس تقلبا دوريا عاديا. فالعجز في الميزان التجاري وفي الموازنة الحكومية يتفاقم سنة بعد أخرى. ومن غير المرجح أن يحافظ الاقتصاد الأمريكي في الأعوام المقبلة على مكانته بالقدر نفسه الذي كان عليه في العقود السابقة. وسيظل يعاني من تداعيات الأزمة المالية على الأقل خلال السنوات الخمس المقبلة ـــ وفقا لاعترافات رئيس بنك الاحتياط الفيدرالي برنانكي. ومع ذلك فسيبقى واحدا من الاقتصادات الكبرى في العالم في المدى المنظور. أما إذا قورنت مشكلات الاقتصاد الأمريكي بالأوروبي، فلربما كان الاقتصاد الأمريكي أقدر من الاقتصاد الأوروبي على استعادة تماسكه.
أما عن الدولار كعملة احتياط، ففي الغالب أن العملة الأمريكية ستبقى رغم العواصف التي تحيط بها عملة احتياط واستثمار دولي مقبولة، على الأقل لثلاثة أسباب: أولها أنها عملة أكبر اقتصاد في العالم، وثانيها تعدد وعمق أسواق المال التي تتعامل بالدولار وتنوع أدواتها، وثالثها وأهمها عدم وجود بديل قريب في المرحلة الراهنة يقوم مقام الدولار. بيد أن هذا لا يقلل من حقيقة تزايد قلق الحكومات والشركات والمصارف والأفراد على قيمة ما يحوزونه من دولارات نقدية أو ما يمتلكونه من أصول مقومة بالدولار. إذ فقد الدولار خلال السنوات السبع الماضية ما يعادل 40 في المائة من قيمته مقابل سلة موزونة من العملات الدولية. وقيمة الدولار اليوم ـــ بعد أن نعدلها بمرجحات وأوزان مناسبة تأخذ في الحسبان نسب التضخم ـــ هي عند أدنى نقطة سبق أن بلغها الدولار في أوقات سابقة، مثلما كان عليه سعره في 1979، وكذلك في نهاية 1990.
هذا ما كان من أمر الدولار كعملة احتياط واستثمار، أما عن قيمته مقابل العملات الأخرى فهي متراجعة. ومن المرجح أن يستمر هذا التراجع بالنظر لحالة الاقتصاد ولنوع السياسات النقدية والمالية التي تتبناها السلطات الأمريكية. ومن الواضح أن السلطات الأمريكية تنهج سياسة مقصودة لإضعاف قوة الدولار من أجل السيطرة على عجز ميزانها التجاري من خلال زيادة الصادرات، ولا سبيل لزيادتها إلا عن طريق تخفيض سعر الدولار لتبدو السلع الأمريكية أرخص في الخارج.
ونظرا لأن سياسة بلادنا المعلنة والثابتة منذ أمد طويل هي الإبقاء على ثبات سعر صرف الريال مقابل الدولار، حيث يؤمن المسؤولون في مؤسسة النقد بأنه لا توجد مبررات لتغيير هذه الاستراتيجية، ونظرا لأن الدولار سيستمر في التراجع فإن الآثار التضخمية على اقتصادنا ستغدو حتمية. ولذا أصبحت هذه التطورات تثير مخاوف كثيرين من آثارها السلبية المتوقعة على اقتصادنا، وعلى مدخرات الناس، وعلى القوة الحقيقية لدخولهم، فضلا عن قيمة أصولنا المستثمرة بالدولار. ويبدو أن حرب العملات المستعرة بين القوى الكبرى في أمريكا وأوروبا وآسيا ستزيد من هذه الضغوط التضخمية على اقتصادنا نتيجة الارتفاع المتوقع في أسعار السلع المستوردة. وقد لوحظ بالفعل ارتفاع معدل التضخم في النصف الثاني من العام الحالي بسبب استمرار انخفاض الدولار، وزيادة السيولة المحلية التي لم تقابلها زيادة مناسبة في الإنتاج. والمرجح أن يواصل معدل التضخم تحت هذه الظروف ارتفاعه بوتيرة أعلى في السنتين القادمتين. نعم قد تستفيد صادراتنا نتيجة انخفاض الدولار وخاصة في قطاع البتروكيماويات، بيد أن محدودية المنتجات المصدرة تجعل المكاسب من انخفاض العملة لا تعادل الخسائر التي سيتحملها عامة الناس بسبب نقص القوة الشرائية للريال وانخفاض دخولهم الحقيقية نتيجة ارتفاع فاتورة وارداتنا من الخارج.
وبناء على ما تقدم، يقتضى المنطق الاستعداد بسياسات ملائمة لمواجهة ما هو متوقع على المستويات كافة. فعلى المستوى الحكومي، يجب دراسة كيفية الحفاظ على قيمة احتياطياتنا من الدولارات، وكذلك ثرواتنا المستثمرة في أصول مالية مقومة بالدولار من الخسائر المتوقعة نتيجة انخفاض قيمة الدولار. ومن الحكمة في مثل هذه الظروف تنويع الاستثمارات وأماكنها الجغرافية. كما أن علينا التفكير في التخلص من عيوب ارتباط سياستنا النقدية بالسياسة النقدية لبنك الاحتياط الأمريكي، حيث تتعارض في كثير من الأحيان هذه المصالح، مثلما جرى في عامي 2007 و2008. عندما اتبع البنك المركزي الأمريكي سياسة نقدية توسعية فيما أجبرنا ارتباط الريال بالدولار على اتباع السياسة نفسها, مع أن المناسب لنا كان اتباع سياسة نقدية مقيدة لمواجهة مشكلة تضخم الأسعار آنذاك. وإذا تفاقم خطر التضخم فقد يقتضى الأمر الأخذ بسياسات تعويضية تتضمن تعديل الأجور والرواتب.
أما على مستوى الشركات والأفراد، فإن الحكمة تقتضي العمل على تنمية المدخرات وعدم تخزين الثروة في شكل نقدي. ولعل الاستثمار في العقار هو من أفضل وأضمن وسائل حماية المدخرات من التدهور المتوقع في قيمة الريال. وعلى المصارف والمؤسسات المالية توفير أدوات استثمار ملائمة لتنمية المدخرات الصغيرة والمتوسطة لأصحاب الدخول الثابتة، وأعتقد أن توفير صناديق استثمار عقارية متنوعة هو الأنسب لهذه الفئة. أما الاستثمار المباشر في العقار فقد يكون مناسبا لأصحاب الفوائض الكبيرة، وعموما هؤلاء لن يعدموا وسائل وقنوات استثمار عديدة داخل البلاد وخارجها. أما الاستثمار في الذهب كوسيلة لحماية المدخرات فهو خيار قد يغرى بعض الأثرياء؛ بيد أن مخاطره عالية.
وباختصار، سيبقى الدولار عملة احتياط دولية لعدم وجود بديل حاليا، لكن قيمته ستتراجع وسيتبعه الريال، وسترتفع معدلات التضخم وتصبح حماية المدخرات واجبة على كل الأصعدة.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي