مستقبل البطالة في ظل سياسات التصدي للأزمة المالية
التمويل بالنسبة للمنشآت الاقتصادية كالأكسجين ولا حياة ولا نمو دون تمويل، والمنشآت الاقتصادية الخاصة في السعودية هي المُوظّف الأكبر، وأي تراجع في نمو المنشآت الاقتصادية بسبب شح التمويل يعني تراجعا في نمو الوظائف مقابل نمو الداخلين في سوق العمل، الأمر الذي يعني ارتفاع معدلات البطالة.
لن أخوض في دقة نسب البطالة بين الذكور والإناث في بلادنا والتي تشير الدراسات المتوافرة إلى أنها وصلت 10.5 في المائة عام 2010 تتركز معظمها في فئة الشباب رجالا ونساء بشكل بالغ، ولن أخوض أيضا في الآثار السلبية للبطالة وقلق الحكومة والمجتمع من إفرازاتها، فذاك أمر لاكته الألسن والمطبوعات بشكل كبير، لكن بودي أن أشير إلى أن معدل البطالة المعلن في بلادنا ونحن ننعم بمداخيل نفط عالية نتيجة ارتفاع أسعار النفط بشكل جيد يعادل أعلى من معدل البطالة في الكثير من الدول التي تعاني من آثار عميقة للأزمة المالية، فما بالنا لو أن أسعار النفط انخفضت بشكل كبير نتيجة الأزمة المالية؟
المنظومة المالية في بلادنا وعبر الزمن ولدت منظومة تمويل (البنوك التنموية، برامج التمويل الحكومي، البنوك التجارية، السوق المالية وأدواتها) أسهمت بطريقة أو بأخرى بتمويل المنشآت الاقتصادية في جميع القطاعات وفق سياسات متغيرة متفاوتة الفاعلية والتأثير حسب الظروف والمعطيات وأدت بالمحصلة لنمو القطاع الخاص السعودي والذي يوظف اليوم معظم القوى العاملة الوطنية والأجنبية ويعول عليه لاستيعاب المزيد وإحلال الموارد الوطنية محل الوافدة لمعالجة مشكلة البطالة.
بعد أن اندلعت الأزمة المالية الحالية أواخر عام 2008 أصيبت المؤسسات المالية بالذعر وأصبح أكبر همها تحت القيود المفروضة عليها من مؤسسة النقد تجنيب المخصصات لمواجهة الديون المشكوك في تحصيلها من ناحية، وتحصيل الديون وتقليل نسب المعدوم منها من ناحية ثانية، والتشدد في شروط الإقراض للمؤسسات من ناحية ثالثة، الأمر الذي جعل الكثير من مشاريع المستثمرين السعوديين تتعثر بعد أن ضغطت عليهم البنوك لتسديد ديون في فترة قصيرة مقابل استثمارات طويلة الأجل، بل إن بعضهم أعلن إفلاسه، فضلا عن إيقاف الكثير من المنشآت الاقتصادية لمشاريع أعلنت عنها وتقليص مصاريفها بشكل كبير؛ ما أثر سلبا بالتبعية على المؤسسات الموردة للسلع والخدمات التي يغلب عليها طابع المؤسسات الصغيرة والمتوسطة.
كل ما سبق أثر بشكل بالغ على نمو الوظائف من جهة، كما أثر على مستوى دخل المواطنين العاملين في القطاع الخاص، سواء بالعمل في استثماراتهم أو في استثمارات الغير، والشواهد كثيرة ومتعددة وملموسة وأعرف الكثير من بدأ يعتمد على مدخراته التي جمعها أيام الانتعاش بعد أن فقد وظيفته أو انخفض دخله بشكل كبير، خصوصا بعد مضي عام على الأزمة، وكل هؤلاء يسألون الله ألا تطول الأزمة المالية العالمية ويتمنون على حكومتنا الرشيدة تنفيذ خطة تحفيز تدعم المنشآت الوطنية لمواصلة نشاطها ونموها، وبالتالي توليد المزيد من الفرص الوظيفية والاستثمارية في ظل سلامة مؤشرات الاقتصاد الوطني، حيث ارتفاع أسعار النفط المصدر الرئيس للإيرادات والتي فاقت بفضل الله الأسعار التي بنيت عليها الموازنة العامة للدولة.
البنوك مهما أوضحنا لها التداعيات السلبية التي ستنتج من تشددها في تحصيل الديون وتشددها في تمويل المنشآت الخاصة لن تسمع لنا ولن تتفاعل معنا؛ لأنها في نهاية الأمر تتعامل مع ودائع عليها أن تحافظ عليها من الضياع، فهي ليست أموالا استثمارية يمكن أن يتقبل أصحابها أي خسارة على اعتبار أن الاستثمار يحتمل الخسارة كما يحتمل الربح، وبالتالي فإن أي خطاب موجه للبنوك لتسهيل تمويل المنشآت هو خطاب غير واقعي، فالذعر سيد الموقف رغم سلامة مؤشرات الاقتصاد السعودي، الأمر الذي يجعلنا نفكر في جهات أخرى في المنظومة المالية ذات هموم وطنية في الدرجة الأولى لإطلاق خطة تحفيز تعزز من معدلات نمو القطاع الخاص، وبالتالي تعزز من معدلات نمو الوظائف وربط مميزات التمويل بمعدلات توطين الوظائف المولدة.
البعض يقول إن الإنفاق الحكومي الكبير سيحل المشكلة ويحرك العجلة الاقتصادية ويدعم نمو منشآت القطاع الخاص السعودي، وبالتالي نمو الوظائف، والحقيقة على أرض الواقع تقول خلاف ذلك، حيث تركز الإنفاق الحكومي على مشاريع إنشائية عملاقة عززت حركة البناء والتشييد ونمو شركات المقاولات المحلية والأجنبية التي تعتمد بدرجة كبيرة على العمالة الوافدة، ويكفي أن نعلم أن عدد المهندسين نحو 130 ألف مهندس، منهم نحو 100 ألف مهندس وافد، فما بالنا بالعمالة المهنية، حيث يأنف المواطنون عن الإقبال عن الفرص الوظيفية المهنية لأسباب اجتماعية نعلمها جميعا.
وبالتالي علينا أن نبحث في هذه القضية بكل جدية؛ لأننا ولله الحمد طورنا قدراتنا في تأهيل الموارد البشرية الوطنية برفع قدرات جامعاتنا الاستيعابية وقدراتها التأهيلية، كما قمنا بابتعاث عشرات الآلاف من أبنائنا للدراسة النوعية خارج البلاد، فضلا عن تعزيز قدرات المعاهد التقنية والتطبيقية، بينما لا نجد خطة موازية لتوفير الفرص الوظيفية لهؤلاء القادمين لسوق العمل، فضلا عن العاطلين حاليا والذي يصل عددهم نحو 400 ألف عاطل يفكر الكثير منهم في الهروب إلى الأمام من خلال الالتحاق ببرامج تدريبية ودراسية محلية وخارجية.
ختاما، أعتقد أنه حان الوقت أن تنتبه وزارة العمل لمشكلة نمو الوظائف في القطاع الخاص السعودي وأن تتكامل مع وزارة المالية لإيجاد بدائل تمويلية ذات بعد وطني لتحفيز القطاعات الاقتصادية المولدة للوظائف الملائمة للمواطنين كقطاع الخدمات؛ كونه الموظف الأكبر بالاقتصاديات الرأسمالية (مثل القطاع السياحي والقطاع العقاري وقطاع الاستشارات والإعلام) بعكس ما هو معمول به حاليا من التركيز فقط على قطاع البتروكيماويات الذي يعتمد على التقنية بشكل كبير، وكلنا ثقة أن حكومتنا الرشيدة لن تترك مثل هذه المشكلة للزمن لحلها ونحن نعلم أن الزمن دون خطة علاجية فاعلة سيفاقمها لتولد المزيد من المشاكل التي تتطلب هي الأخرى موازنات إضافية لمعالجتها.