حزم ورفق

أسمع أحيانا:
- "لا، لا أعتقد أنه يصلح لهذا المنصب إنه ضعيف ولطيف أكثر من اللازم".
- "لا، لا أظنه ينجح في هذه المهمة، هو عنيف وشخصيته صارمة بشكل مزعج".
- "هذا أب متهاون لا يكاد يمنع أطفاله عن شيء".
- "تلك أم قاسية وعنيفة مع أطفالها وتعاملهم معاملة بوليسية".
هل ترددت على مسامعكم عبارات مثل هذه؟
السؤال هو: ما العلاقة بين القسوة والفظاظة والسفاهة على الآخرين من جهة وبين الحزم والضبط والصرامة معهم من جهة أخرى؟ وبالمقابل، ما الفرق بين التهاون والإهمال والمجاملات الفارغة وبين التحفيز والدعم والاحترام؟
أظن أن هناك خلطا كبيرا لدى بعضنا بين هذه المفاهيم المتباينة جدا.
الحزم والضبط والصرامة مهمة في التعامل مع الآخرين، وخاصة في بيئات العمل. هي تعني الالتزام بالاتفاق المبرم، والمطالبة بالنتائج المتفق عليها، وتوقع الانضباط والإنتاجية، والمتابعة بشكل مستمر وتطبيق الأنظمة واتخاذ بعض القرارات المؤلمة. وبالمقابل هي تعني في الوقت نفسه العدل في التعامل، والاستماع الفعال، وتفهم وجهات النظر، ومواقف الآخرين، ومغفرة الأخطاء. ولكنها لا تعني أبدا التسلط على الآخرين، وإبراز العضلات أمامهم، ومعاملتهم بقسوة وعنف، إنها لا تشمل قطعا سبا أو إهانة أو تحقيرا وانتقاصا، إنها لا تشمل اتهام النوايا وافتراض النقص وسوء الظن. وهنا مربط الفرس، الكثير يظن أنه حتى يصبح مديرا ناجحا أو أبا قويا أو زوجا مسيطرا، فإن عليه أن يبث موجات القوة والتحكم فيمن حوله، يبقيهم دوما تحت الضغط، ويريهم بين آونة وأخرى سلطته وقدرته عليهم. يبقي دوما حاجزا بينه وبينهم، يظن أن ذلك يفرض احترامه عليهم، ويمارس معهم سياسة القبضة الحديدية.
وبالمقابل، يظن البعض الآخر، أن احترام الآخرين وتقديرهم يعني مجاملتهم في الباطل، ومسايرتهم في الخطأ، والحفاظ المبالغ فيه على مشاعرهم، وتأجيل مواجهتهم بأخطائهم، وتجنب القيام بقرارات شجاعة فيها المصلحة العامة؛ خوفا من إيذاء خواطرهم، يظن أنه بهذه الطريقة يكسب قلوبهم ويحفزهم، ولم يعِ أنه غشهم أولا قبل أن يغش نفسه وضر بالمصلحة العامة بسبب ضعفه، وكما قيل: "إذا أردت وصفة مضمونة للفشل حاول أن ترضي جميع الناس".
لنأخذ مثالا حيا للتوضيح، يمكنك مثلا أن تفصل شخصا من العمل بكل هدوء واحترام وتقدير، يمكن أن تقول له شيئا مثل هذا: "أنا أعرف أنك حاولت في هذه الوظيفة بما تستطيع، وربما هناك ظروف معينة حالت بينك وبين الأداء الجيد في هذه المهمة، وربما لم يكن الجو في هذا المكان مناسبا لك، ولكن للأسف نتائج تقييمك متدنية، وتبين لنا أنك لم تقم بواجبك كما نتوقع منك، وقد أعطيت أكثر من فرصة ولكنك لم تبد جهدا حقيقيا للتحسن، وبالتالي يؤسفني أن أخبرك أننا لن نستطيع أن نبقيك معنا في هذا العمل، وأتمنى أن تجد مكانا يناسبك أكثر، وأتمنى لك التوفيق". هذا مثال يبدو لي جيدا في أسلوب راق لإبلاغ رسالة بالغة في القسوة والألم، ولكنها تمت بهدوء وعقلانية وتجرد. هي مثال لنقطة التوازن بين الضعف والقوة، وبين الحزم والرعونة، وبين الوداعة والتسيب. ليس فيها شيء من التجريح الشخصي ولا الإهانة المباشرة ولا رفع الصوت ولا الإيذاء الشخصي، وبالمقابل ليس فيها تهرب من اتخاذ قرار مهم، ولا حساسية مفرطة لمشاعر الآخرين ولا خوف من مواجهة الحقيقة وإخبار الآخرين بها.
هو إذن توازن دقيق بين حزم ورفق، وهي معادلة صعبة تحتاج إلى الكثير من المران. وحسبنا القاعدة النبوية الباهرة: "إن الرفق ما كان في شيء إلا زانه ولا نزع من شيء إلى شانه".
من الذي قال: "القائد مثل المرأة إذا احتاج أن يثبت للناس أنه قائد، فهو ليس كذلك"؟ .. أظنه صدق.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي