انهيار مغارة الأسرار

تقول الأسطورة الإغريقية إن ''أبولو'' رب الفنون عاقب المتبختر ''ميداس'' على فساد الذوق بتحويل أذنيه إلى أذني حمار، لأنه ارتكب حماقة تفضيل عزف ''بان'' رب المراعي والبراري الموحشة على عزف أبولو الساحر الذي لا ينافس، فخشي ميداس أن يفتضح أمره فثابر على تغطية أذنيه بعمامته، غير أن شعره طال وأصبح كثاً فأمر حلاقه أن يقصه وهدده إن هو أخبر أحدا عن أذنيه، لكن صدر الحلاق ضاق بالسر الخطير فذهب للصحراء، حفر حفرة عميقة وصاح فيها: (لميداس أذنا حمار!) ثم ردمها بالتراب. وحين أمطرت السماء نبتت عليها عيدان البوص التي صارت تصفر كلما مرت بها الرياح: (لميداس أذنا حمار) فانتشر السر ومات ميداس من العار، ويقال إن اختراع آلة البوص نجم عن هذه الأسطورة أيضا!!

أما في مأثورنا العربي فهناك شطر بيت من الشعر يقول: (كل سر جاوز الاثنين شاع) وهو قول ينطبق على بسيط الأسرار وخطيرها .. وما أحدثه موقع ويكيليكس الإلكتروني من زلزال إعلامي عالمي بنشره كما هائلا من وثائق سرية أمر لم يخطر قط، لا في بال ميداس ولا الشاعر العربي ولا حتى في بال دهاقنة الإعلام والساسة.
إن المثير في وثائق ويكيليكس هو شمولها نطاقاً عالمياً مس كثيراً من الدول، أفزع الولايات المتحدة وأوروبا وحدا بأبرز الساسة إلى الشجب والوعيد والتهديد لصاحب الموقع جوليان أسانج ومطاردته بتهمة الاغتصاب والطلب من الإنتربول القبض عليه!!
لقد خلق هذا النشر الفضائحي سجالاً حول حرية الإعلام كما خلق إشكالاً قانونياً حيال إقدام الموقع على مثل هذه الفعلة المربكة .. خصوصاً أن الموقع اتكأ على وثائق دبلوماسية ومراسلات تشاورية اعتبرت عند البعض حساسة محرجة أو مقدمة لسيناريوهات وخطط فعلية وعند آخرين انطباعية ومن لغط القول.
هناك أيضاً جدل حول الطريقة التي وصل بها صاحب الموقع لهذا الكم الكبير من الوثائق وحول من يقف وراء هذه التسريبات. وفي هذه النقطة بالذات، يبرز السؤال: من المستفيد من كل ذلك؟ أو بالأصح من هو غير المتضرر منها؟
إن معظم هذه التسريبات يظهر أن دولة واحدة فقط، تكاد تكون بمنأى عن تسريبات خطيرة تمسها وهي إسرائيل، فعدا وثيقة تعد من فضل القول والبدهيات، حول طلب حكومة إسرائيل من مصر ومن السلطة الفلسطينية الموافقة على قرار ضرب قطاع غزة ورفضهما الطلب وأخرى حول ضرب إيران لا نجد ذكراً لإسرائيل، وهذا طبعاً ليس انسياقاً مع ذهنية المؤامرة، إنما هو استنتاج لا يمكن إهماله حتى وإن ذهبت بعض التكهنات إلى الإشارة لدور لوكالة المخابرات المركزية الأمريكية فيها.
وأيا كان الواقف خلف النشر، دولة أو مؤسسة أو أشخاصا يظل الإشكال قائما عما يمكن أن يتخذه العالم من موقف إزاء هكذا عمل! وعن مدى قدرته، في عصر التقنيات الفائقة لوسائل الاتصال، على الاحتفاظ بالأسرار كما كان الحال في سابق السنين!
الشيء الأكيد أن مغارة الأسرار انهارت ولم تعد محصنة مغلقا عليها بابها.. فقد تطورت وسائل الاتصال وأدواته وتطورت قدرات البشر الذهنية، كما أصبح الذكاء الصناعي يلعب دوراً يخاتل الذهنيات التي أفرزته، ما يشكل اضمحلالا شبه كامل لعالم الخصوصية، قد يؤدي إلى لجوء المراسلات والمحادثات إلى لغة تشفير خاصة بكل دولة أو جهة أو أشخاص بعينهم، أي أن يطول التشفير لغة الخطاب اليومي والمكاتبات الرسمية أو المهمة، وهو إجراء اعتمدته وسائل البث الفضائي والحواسيب وغيرها لكنها مع ذلك لم تنج ممن يفك شيفراتها كلما قامت بتغييرها، وبالتالي فإن هذا الاختراق قد يحدث كذلك مع تشفير الكلام.
هل يعني هذا أن العالم تورط فيما لا قبل له بالمواجهة والتحدي؟ لا يمكن القطع في ذلك، وإن بدا أن هذا هو ما يحدث الآن، ومع أن العقل البشري قادر على إيجاد مخرج، إن لم يكن تقنياً فسوف يكون قانونياً وربما الاثنان معا .. إنما يبقى العقل البشري بالذات هو السر الوحيد المحير والمتكتم على نفسه الذي يلقي بذرة هلاكه أو عذابه فيما ينجزه .. ألم يخترع الكمبيوتر ليكون خزانة أسراره الحصينة؟ هاهو أصبح مصدر فضيحته الكونية المدوية!!

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي